رُبّما يدفع "التيّار الوطنيّ الحُرّ" اليوم، فاتورة تخلّيه –ولأَسباب تفرضها الظّروف المحليّة القاهرة- عن خارطة طريق مُواجهة الفساد في لُبنان، بعدما كان ملفّ "الإِبراء المستحيل"، بالنّسبة إِلى التيّار، يُشكّل ألفباء تلك الخارطة وذاك الطّريق الشّاق...
بيد أَنّ التيّار، وفي "التّسوية الرّئاسيّة"، ظنّ أَنّ في الإِمكان إِعطاء "فرصة ثانية" للفاسدين والمُفسدين، وتخلّيه عن هذه الورقة، في سبيل تسويةٍ سياسيّةٍ تُتيح له "شطف الدّرج" مِن أَعلى إِلى الأَسفل. ولكنّ حسابات حقل "التيّار"، لم تصحّ في بيدر الوضع اللُبنانيّ المُهترئ... فسقطت ورقة "الإِبراء المُستحيل" مِن يد "التيّار الوطنيّ"، إِلى غير رجعةٍ، وقد كانت لذلك تدعيّاتٌ خطرةٌ، جعلت مِن "تيّارٍ وطيّ حُرٍّ" أَعدّ "الإِبراء المُستحيل"، المُستهدَف الأَوّل في "الحراك الشّعبيّ" ضدّ فسادٍ أُسّس له مُنذُ العام 1989، وقد شُيّدت صُروح الفساد كُلّها... خلال وجود العماد ميشال عون في المنفى!...
إِذًا فـَ«الإِبراء المُستحيل»، لم يكُن مُجرّد كتابٍ أَصدره "تكتُّل التّغيير والإِصلاح"، بل هو عُنوان الوقائع والمُعطيات المُتّصلة بعدم قُدرة السُّلطة في لُبنان، على إِقرار أَي مُوازنةٍ بالشّكل الدُّستوريّ والقانونيّ، مُنذُ العام 1993 إِلى اليوم... وهذا يعني تاليًا، أَنّ كُلّ الإِنفاق مُنذُ ذلك الوقت... إِلى اليوم، لم يخضع لأَيّ رقابةٍ أَو تدقيقٍ، وهو ما يعكسه أَيضًا مضمون الكتاب الّذي يُظهر أَنّ الإِنفاق العامّ خلال العقدَيْن الماضيَيْن، وصل إِلى 250 أَلف مليار ليرة!.
وبعد سقوط "ورقة الإِبراء المُستحيل" مِن يد التكتُّل "العَونيّ"، وقد أَضحى رئيس التكتّل رئيسًا للجمهوريّة اللُبنانيّة، انتقلت أَولويّة الرّئيس عون إِلى مُحاولة مدّ اليد لفتح صفحةٍ جديدةٍ مع مُكوّناتٍ سياسيّةٍ، كان يعلم أَنّها تحتمي، في ملفّ الفساد، وراء طائفتها وجمهورها... وقد كان ذلك على حساب التّحقيقات الجنائيّة الّتي هي في المفهوم النّظريّ للكلمة، "عُلومٌ تطبيقيّةٌ تنطوي على دراسة الحقائق، وتستخدم للتحقُّق مِن وجود جريمةٍ وإِثباث ذنب المُجرم، التّحقيق الجنائيّ الكامل"، الّذي "يُمكن أَن يشتمل البحث والمُقابلة والاستجواب، وجمع الأَدلّة وحفظها"... إِضافةً إِلى أَساليب مختلفةٍ عدّة، تهدف إِلى إِجرء التّحقيقات الجنائيّة، من خلال استخدام تقنيّاتٍ علميّةٍ حديثةٍ، تُعرف بالـ"علم الشّرعيّ"!.
ولطالما كانت التّحقيقات في الجرائم، الخُطوةَ الأُولى في الطّريق إِلى تحقيق العدالة. ولهذا اعتُبر المُحقّق الجنائيّ شخصيّةً محوريّةً، تعتمد عليها المُجتمعات، في سعيها إِلى الرُّقيِّ والكمال. كما وكانت هذه العوامل وراء ظُهور شخصيّاتٍ خياليّةٍ تبوّأَت أَعلى مراتب الشُّهرة، وعلى رأسها شخصيّة "شيرلوك هولمز" الّتي أَبدعها الأَديب البريطانيّ آرثر كونان دويل، والّتي فتحت الباب لشخصيّاتٍ كثيرةٍ أُخرى كـ"هيركيول بوارو" و"ميغريه" و"المُفتّش غادجت" وغيرهم... إِلَّا أَنّ النّقلة النّوعيّة الّتي فتحت هذا الباب على مصراعَيْه للغالبيّة العُظمى من شباب هذا الجيل، كانت مع "كونان"، هذا المُحقّق الشابّ الّذي استُوحيَ اسمُه مِن "كونان دويل"، صاحب شخصيّة "شيرلوك هولمز"، ليكون خَيْطًا يربط الأَجيال ببعضها، ويُعطي انطباعًا بدَيْمومة هذا "الفنّ"، إِذ يحقّ لنا أَن نُسمّيَه "فنًّا"!.
ولرُبّما أَخذنا –نحن اللُبنانيّين– مِن الغرب فُنونًا كثيرةً... بَيْد أَنّ هذا الفنّ المُشار إِليه أَعلاه تحديدًا، لم نأخذه حتّى السّاعة، بدليل أَنّ مجلس الوزراء اللُبنانيّ الّذي كان أَقرّ في 30 حزيران 2020، إِجراء تدقيقٍ ماليٍّ ومُحاسبةٍ مُركّزةٍ أَي "تدقيقٍ جنائيٍّ" في حسابات المصرف المركزيّ، لم يُكمل طريقًا شابتهُ عقباتٌ كثيرةٌ!... وبعدما قرّرت حُكومة حسّان دياب، الاستعانة بالشّركة العالميّة "أَلفاريز ومارسال"، وأَبرمَت معها عقدًا بما يُعادل مليونَيْ دولارٍ للتّدقيق في خسائر المصرف الّتي تجاوزت 60 مليار دولار، وفق أَرقام "خطّة الإِنقاذ"... فقد أُعيد لاحقًا تجميد هذه الخطّة، بعدما تبيّن أَن ثمّة "لغطًا" في احتساب الخسائر، على ما قيل...
وتزامُنًا مع وصول وفد الشّركة إِلى بيروت استعدادًا لمُباشرة مهمتها، أَظهرت سلسلة اللقاءات الّتي عقدها الوفد، أَن ثمّة "عقباتٍ" تحول دون حصول الوفد على المُستندات المطلوبة لإِتمام مهمّته كاملةً، ما طرح مجموعةً مِن الأَسئلة، لا تقف عند حُدود المصرف المركزيّ، وإِنما قد توسّع عمليّة التّدقيق في اتّجاه عددٍ مِن الوزارات ومُؤسّساتٍ رسميّةٍ أُخرى عليها شُبهات فسادٍ...
وما إِن أذكى السّياسيُّون الجدل العقيم، حتّى توقّف التّحقيق الجنائيّ... فقد أَشارت "مصادر سياسية" وقتها، وهي مُعارضة لمضمون العقد الّذي أَبرمته الحُكومة اللُبنانيّة مع شركة التّدقيق الجنائيّ، إِلى نيّاتٍ "خبيثةٍ" في مضمونه تهدف إِلى "الانتقام السّياسي"، مُعتبرةً أَنّ التّحقيق الجنائيّ يجب أَن يبدأ مِن وزارة المال الّتي تمرّ عبرها كُلّ آليّات الصّرف الرّسميّة، في حين أَنّ المصرف يُنفّذ تلك القرارات، ومُشدّدة على أَنّ "الدُّخول في خُصوصيّات المودعين وحساباتهم، لا يمتّ إِلى عمليّة الإِصلاح بصلةٍ... فيما أوضحت مصادر رئاسة الحُكومة في المقابل، أَنّ اتّخاذ قرار التّحقيق الجنائيّ هو "وسامٌ يُعلّق على صدر رئيسها (حسّان دياب)، كونه تجرّأَ واتّخذ قرارًا كهذا"، مشيرةً إِلى أَنّ التّحقيق الجنائيّ "فتح عصرًا جديدًا في مُكافحة الفساد ومحاصرة الفاسدين من 30 سنة وحتّى اليوم"...
وإِذا كنّا تحدّثنا عن "وسام دياب" للولوج إِلى التّحقيق الجنائيّ، غير أَنّ الرّئاسة الأُولى في لُبنان، الّتي حملت مُنذُ اليوم الأَوّل لانفجار الأَزمة في 17 تشرين الأَوّل 2019، لواء التّحقيق الجنائيّ، مُعتبرةً إِيّاه طريقًا إِلزاميًّا للعُبور إِلى الخلاص... فقد باتت الرّئاسة اليوم أَكثر حاجةً إِلى هذا التّحقيق، بعد سهام الافترءات الّتي حمّلتها –ولأَسبابٍ سياسيّةٍ هذه المرّة– مسؤوليّة الفساد حصرًا، مُنذُ 1989 إِلى اليوم.
ثمّة وحدة مسارٍ ومصيرٍ اليوم، تجمع الرّئاسة الأُولى عندنا بالتّحقيق الجنائيّ، وإِن قيل ظُلمًا وافتراءً أَيضًا... إِنّ التّحقيق يستهدف سياسيًّا زيدًا أَو عمرًا من النّاس!.
ولا شكّ أَنّ "التيّار الوطنيّ الحُرّ" دفع غاليًا ثمن تسليمه يومًا ما، صكّ براءةٍ من "الإبراء المستحيل"، وهو لا يبدو هذه المرّة مُستعدًا لأيّ "تقصيرٍ" في إزالة العراقيل من أَمام درب التّحقيق الجنائيّ. فهل سيُسجّل للعهد العونيّ إِنجازه هذا التّحقيق؟...