وأما الآن، فقد وقعت البقرة كما كان متوقعاً. ومن الواضح أنّ السلّاخين لم ينتظروا وقوعَها ليباشروا عملية السلخ، بل إنّهم أساساً بذلوا كل جهدٍ ودفعوا بالبقرة لتقع، بعدما شحذوا السكاكين. ولكن، بعد اليوم، ستكون المسألة المطروحة، كما يحصل طبيعياً للفريسة في الغاب، ووفق شريعة الغاب: مَن سيكون الأكثر براعةً في عملية السلخ، وهل سيسمح الأقوياء بشراكةِ الآخرين فيها أم سيقاتلون ليحتكروا كل شيء؟ وتالياً، لمَن ستكون الحصص من البقرة المفكَّكة: للسلاخين فقط أم لآخرين أيضاً سيظهرون فجأة أمام الوليمة، وهم اليوم في وضعية الانتظار والتفرُّج؟ وفي الخلاصة: هل سيندلع القتال لتقاسم البقرة؟
يوحي كلام المعنيين بكثير من الهلع، في الأيام الأخيرة، وكذلك سلوكهم. ففي طياتِ الإطلالة الأخيرة للأمين العام لـ»حزب الله»، السيد حسن نصرالله، يظهر الكثير ممّا لم يُرِد قوله صراحةً. وكذلك، توحي تحركات الطواقم الديبلوماسية في بيروت بكثير من القلق على مسار البلد.
حتى التوقف الفجائي القسري للمناكفات الساذجة بين الثلاثي عون، باسيل- بري- الحريري حول الملف الحكومي، يُشغل البال. فالواضح أنّ أركان اللعبة يلتزمون الصمت اليوم، لا تحسُّساً بالمسؤولية كما كان يُفترض أن يفعلوا منذ شهور وسنوات، بل تهيُّباً وترقّباً للآتي الأعظم.
والعلامة الأكثر تعبيراً عن القلق تَظهر عند «رئيسَيْ الحكومة»، المصرِّف للأعمال والمكلَّف. فالرئيس سعد الحريري، أخيراً، وجد نفسه مضطراً إلى أن يتخذ قراراً، إما بالاستمرار في المراوحة مهما كلّف الأمر، وإما بوقف اللعبة والانسحاب مهما كلّف الأمر.
في الترجمة، بات على الحريري أن يغادر المنطقة الرمادية ويختار بوضوح ما سيفعله، وبملء إرادته لا بحكم ردّات الفعل والأمر الواقع. فإما أن يرمي بتشكيلته المفضّلة على طاولة القصر ويخرج من المعادلة أياً كانت الأثمان، ويتحمّل تبعات قراره، عليه شخصياً في الدرجة الأولى، وإما أن يقول: «أنا المكلَّف الوحيد، ولن أتزحزح من مكاني، ولو تمادى الخراب إلى ما لا نهاية، وأنا أتحمّل تبعات قراري».
وأما رئيس حكومة التصريف حسان دياب، فقد خرج عن تحفّظه كما لم يفعل في أي يوم مضى، وبشَّر بأنّ البلد على مسافة «أيام قليلة من الانفجار الاجتماعي»، وأنّه مُعرَّض لـ»الزوال» و»عندما يحصل الارتطام، لن يستطيع أحد عزل نفسه عن خطر انهيار لبنان». وللتبرّؤ من المسؤولية، ذكَّر دياب بأنّ حكومته وضعت خطة إنقاذ «وهي جاهزة لتحديثها».
طبعاً، هو يدرك أنّ الوقت فات على تنفيذ أي خطة، وأنّ الباب مفتوح في اتجاه واحد هو الانهيار، وأنّ غسل الأيدي لم يعد ينفع لا للحاضر ولا للتاريخ. لكن دياب مضطر، كسواه، إلى رمي الكرة خارج ملعبه، لأنّ الآتي أكبر من القدرة على التصوُّر، ولأنّ مستوى الاحتقان لن يقود إلى انفجار اجتماعي كبير فحسب، بل أيضاً إلى انفجار أمني خطِر.
للتذكير، وبعيداً من الذلّ في مشهد الطوابير، إنّ عمق أزمة البنزين الفعلية لا يكمن في انقطاعه، بل في عجز الناس عن دفع 200 ألف ليرة ثمناً للصفيحة عندما سيصبح متوافراً. والناس الذين يعانون اليوم من فقدان الأدوية التي يحتاجون إليها لضمان حياتهم، سيكتشفون لاحقاً أنّهم عاجزون عن شرائها ولو وُجدت. وأما اللحوم والأجبان والخبز وسائر المواد الحيوية، فقد تحولت مواد ثمينة جداً للفقراء ومتوسطي الحال.
وسيزداد الاحتقان عندما يبدأ موت الناس على أبواب المستشفيات، لأنّ شركات التأمين لن تتكفل بهم، فيما سياراتهم وسائر آلياتهم ستصبح «خردة»، يوماً بعد يوم، بسبب عجزهم عن صيانتها. وأما الراتب فقد انقطع تماماً أو أكله الدولار بالكامل.
في هذه الحال، ما السيناريو المتوقع؟
واقعياً، في المناطق التي يتحرّك فيها «حزب الله»، سيكون وقع الكارثة مقبولاً على الذين يحصلون على التغطية. وهؤلاء يرتبطون اليوم بمؤسسات تابعة لـ»الحزب» تتولّى رعاية أوضاعهم ضمن حدود معينة، عدا عن أنّ البيئة اللصيقة يصل إليها الدولار النقدي بمقدار يكفي للحدّ من الوجع. فهل يكون هذا النموذج مرشحاً للتكرار في مناطق أخرى، عن طريق مرجعيات دينية أو حزبية أو اجتماعية؟
في نماذج الفلتان والجوع والفوضى، في أماكن أخرى من العالم، سادت شريعة الغاب، حيث القوي أكل الضعيف. واضطر الناس إلى الدفاع عن أنفسهم في مواجهة أعمال السلب والنهب، واحتكموا إلى «قبضايات الزواريب» في نزاعاتهم. وإذا طال الوقت، تنشأ مرجعيات وزعامات في الزواريب والأحياء والمدن والمناطق، تأخذ على عاتقها «حماية» الناس وتوفير «الإعاشة» لهم.
في لبنان، إذا نشأت هذه الوضعية، تنشأ مرجعيات وزعامات مناطقية وطائفية ومذهبية. وقد تتصارع في ما بينها، داخل كل منطقة وفئة أو بين المناطق والفئات. وهذا ما جرى خلال الحرب الأهلية التي بدأت في العام 1975 واستمرت رسمياً حتى العام 1990، لكنها مستمرة حتى اليوم بدرجات مختلفة وأشكال أخرى.
هذا هو جوهر أزمة الانهيار التي ستبلغ مداها قريباً. واليوم، إذ استسلم الجميع للأمر الواقع أو سلَّموا البلد له، سيكون مبرّراً طرح السؤال: إذا كان يوم غدٍ هو يوم الارتطام والانهيارات والاهتراء، فماذا عن اليوم التالي؟ وأي تحدّيات سيحملها، وأي دولة لأي بلد؟