سمعت أحد شيوخ الكنيسة يقول يومًا: إن البخيل لا يعرف الحب. وأضاف، إن يسوع المسيح ترجم الحب عندما بذل نفسه فداءً عن أحبائه، هذا قمة العطاء ولا سقف يعلوه، وقد ورد في إنجيل يوحنا: "لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هذَا: أَنْ يَضَعَ أَحَدٌ نَفْسَهُ لأَجْلِ أَحِبَّائِهِ"(يو 15: 13).
هذا الشيخ الجليل، أورد لي قصة، من الأدب الشعبي، عن كاهنٍ كان يعظ في إحدى المرات، وصادف أن الإنجيل كان عن العطاء، حيث ورد عند لوقا: "مَنْ لَهُ ثَوْبَانِ فَلْيُعْطِ مَنْ لَيْسَ لَهُ، وَمَنْ لَهُ طَعَامٌ فَلْيَفْعَلْ هكَذَا"(لو 3: 11). بعد القدّاس جاءه أحد المصلّين وطلب منه ثوبًا وطعامًا، فبادر الكاهن بالقول: أما سمعت ما ورد في بداية النص الإنجيلي، فرد ذاك المحتاج بالنفي، قال له الكاهن: في ذلك الزمان. وهكذا استطاع ذاك الكاهن التملّص من هذا الرجل المسكين.
قصة، ولو كانت على سبيل الدعابة، إنما تلخّص نفسيّة الناس، سواء كانوا رجال دين أم علمانيين، الذين لم يترجموا المحبّة عطاءً، ولم يحوّلوا الأقوال أفعالاً.
البخل مرض، أما العطاء فنعمة من الله يسكبها على الذين يحبونه. ولذلك أورد لوقا في كتاب أعمال الرسل: "فِي كُلِّ شَيْءٍ أَرَيْتُكُمْ أَنَّهُ هكَذَا يَنْبَغِي أَنَّكُمْ تَتْعَبُونَ وَتَعْضُدُونَ الضُّعَفَاءَ، مُتَذَكِّرِينَ كَلِمَاتِ الرَّبِّ يَسُوعَ أَنَّهُ قَالَ: مَغْبُوطٌ هُوَ الْعَطَاءُ أَكْثَرُ مِنَ الأَخْذِ"(أع 20: 35). هذا النص غير موجود في الأناجيل الأربعة. ولكن هذا هو روح تعليم المسيح.
في موقع آخر كتب الرسول بولس في رسالته الثانية إلى أهل كورنثوس: "كُلُّ وَاحِدٍ كَمَا يَنْوِي بِقَلْبِهِ، لَيْسَ عَنْ حُزْنٍ أَوِ اضْطِرَارٍ. لأَنَّ الْمُعْطِيَ الْمَسْرُورَ يُحِبُّهُ اللهُ"(2 كو 9: 7). العطاء يجب أن يكون خاليًا من الشعور بالإلزام. ولكنّ الدافع يجب أن يكون الحرية الشخصية والاستعداد الذاتي وحبًا في العطاء. فالله يحب الذي يعطي من قلبه بسرور. لأنّ العطاء هو منفعة للطرفين، المحتاج يأخذ أموالًا والمعطي يأخذ فرحًا وسرورًا. إذًا الله جعل العطاء لمصلحة الجميع.
أليس هذا وقتًا موافقًا لكي نكون إلى جانب المحتاجين، أليست هذه الأيام الصعبة، فرصةً لكي نترجم محبتنا للآخر بتقديم المساعدة لهم، وقد بات شعب بلادنا بأمسّ الحاجة إلى عطاءات المحبّين، والمعطائين دون مقابل، وإيمانًا منهم بنيل الفرح والسرور من الله.
الكنيسة مدعوة أولًا إلى حمل لواء العطاء، والكنيسة هي جماعة المؤمنين، وليست حجارة صنمية إنما حجارة حيّة بنعمة الروح، ولذلك ورد في إنجيل متى: "لِأَنَّ كُلَّ مَنْ يَسْأَلُ يَنَالُ، وَمَنْ يَطْلُبُ يَجِدُ، وَمَنْ يَطْرُقُ عَلَى الْبَابِ يُفْتَحُ لَهُ. مَنْ مِنْكُمْ إِذَا طَلَبَ ابْنُهُ مِنْهُ خُبْزًا يُعْطِيهِ حَجَرًا؟ أَوْ إِذَا طَلَبَ سَمَكَةً يُعْطِيهِ حَيَّةً"(مت 7: 17). فلا نرمي المسؤولية والإتكال على الدولة والجمعيات الخيرية والمنظمات الدولية فقط. إنما الكنيسة، من خلال أحبار ها ورعاتها والمؤمنين جميعًا، في عطائها، تترجم الحب الإلهي، ولا تمنن أو تتطلّب لنفسها مجدًا، إنما تطلب مجد الله.
أشكر الله على أشخاصٍ فهموا هذه النعمة، وهم يقومون بلعب دورٍ بالغ الأهمية في نصرة المحتاجين والمعوزين، مسيحيين أم مسلمين. هؤلاء أوجّه لهم آيات الشكر على عطاءاتهم المغبوطة، سواء من داخل البلد أو من المغتربين والمهاجرين، والذين بفضلهم ما زال اللبنانيون، بحدٍ معين، صامدين في وجه الأزمة الإقتصادية والوبائية التي تعصف بنا.
بعض الناس يتعللون بعلل الخطايا، ويتحجّجون بأن الأزمة طالتهم، ناسين أن ينظروا إلى نصف الكوب الملئان، فقط لكي لا يحرّكوا قلوبهم للعطاء. فلنتذكر يا أحباء قول المزامير "بدَّد وأعطى المساكين فبرّه يدوم إلى الأبد ..."(سفر المزامير 112: 9) هذا هو المهم، وهذا هو الأساس لمقوّمات الصمود في هذه الحياة.