منذ تكليف الرئيس سعد الحريري تشكيل الحكومة، على أثر استشارات نيابية ملزمة أجراها رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، في أعقاب استقالة حكومة الرئيس حسان دياب، اتبع الرئيس المكلف سياسة تقوم على تحميل الرئيس عون مسؤولية عرقلة تأليف الحكومة، لأنه رفض تسمية الحريري وزيرين مسيحيين، وتمسك بالحصول على الثلث الضامن، ولم يوافق التيار الوطني الحر على شرط الحريري، منح الثقة المسبقة للحكومة قبل تشكيلها ومعرفة برنامجها. ومع أنّ رئيس الجمهورية والتيار الوطني وافقا على إيجاد الحلول الوسط لتسمية الوزيرين المسيحيين، من دون أن يؤدي ذلك إلى تكريس مخالفة لدستور الطائف الذي ينص على المناصفة بين المسلمين والمسيحيين، وأكدا أنهما لا يريدان الحصول على الثلث الضامن، ووافقا على عدم التمسك بوزارتي الطاقة والعدل، إلا أنّ الرئيس الحريري كان يصرّ على عدم إبداء أي مرونة مقابلة ويتمسك بموقفه فرض حكومة على رئيس الجمهورية وفق شروطه، ومخالفة الدستور الذي ينص على تشكيل الحكومة بالاتفاق بين الرئيس المكلف ورئيس الجمهورية، وكان يختلق المبررات باستمرار لعدم التأليف، ويذهب في زيارات خارجية، هرباً من القيام بواجباته الدستورية التي تفرض عليه التشاور المستمر مع رئيس الجمهورية حتى يتم التفاهم والاتفاق بينهما على تشكيلة الحكومة وإعلان ولادتها.
من الواضح أنّ تمترس الرئيس الحريري خلف هذا الموقف المخالف لكلّ منطق تشكيل الحكومات ما بعد اتفاق الطائف، كان يخفي وراءه تعمّد إضاعة الوقت للتعمية على الأسباب الحقيقية التي تدفع الرئيس الحريري لإيجاد المبررات والذرائع لعدم التعاون مع الرئيس عون لتشكيل الحكومة، وهذه الأسباب تكمن بالتالي:
أولاً، وجود فيتو سعودي على قيام الرئيس الحريري بتشكيل الحكومة، وأن هذا الفيتو وضع منذ أن تمّ احتجاز الحريري في السعودية، وإجباره على إعلان استقالته من الرياض، ولم يعد الحريري، في حينه، عن استقالته إلا بعد أن تمّ فكّ أسره، وعودته إلى لبنان، إثر تدخل أميركي فرنسي، وموقف لبناني موحد طالب بإطلاق سراحه.
وبالتالي فإنّ امتناع الحريري عن تشكيل الحكومة طوال الأشهر التسع الماضية، من تاريخ تكليفه، كان، في أحد أسبابه الأساسية، هذا الفيتو، وسعي الحريري إلى كسب رضى المملكة، وتحديداً ولي العهد محمد بن سلمان، والحصول على موافقته ودعمه المادي ليتمكن من تشكيل حكومة تحظى بغطاء المملكة، وتملك الحد الأدنى من الدعم الذي يمكن الحريري من الظهور بمظهر مَن خفف من وطأة الأزمات التي يعاني منها اللبنانيون لتعزيز شعبيته قبيل الانتخابات المقبلة، وفي هذا السياق يمكن إدراج تحرك السفيرتين الأميركية والفرنسية في بيروت على خط تذليل الفيتو السعودي من أمام تشكيل الحكومة وذهابهما إلى الرياض بتوجيه من حكومتهما في واشنطن وباريس، لإقناع محمد بن سلمان إما بالموافقة على رفع الفيتو عن الحريري ودعمه سياسياً ومادياً لتشكيل الحكومة، أو اختيار اسم بديل له للقيام بمهمة تأليف حكومة تحظى بدعم المملكة. هذا الأمر يكشف أن الرئيس الحريري لا يملك حرية قراره وأنه مرتهن للمملكة، وطبعاً واشنطن، وهو رهن إشارتهما بتشكيل الحكومة أو الاعتذار إذا طلب منه ذلك، ما يؤكد أنّ التدخل الخارجي المستند إلى بعض الأطراف المحلية التابعة هو المسؤول عن إدخال لبنان في نفق الأزمات وتفجرها ومفاقمتها ومنع الحلول المتاحة لها، وكلّ ذلك بهدف تحقيق انقلاب أميركي على المعادلة السياسية القائمة.
ثانياً، التزام الحريري بالتوجه الأميركي لتحميل عهد الرئيس عون وتياره الوطني مسؤولية تعطيل تشكيل الحكومة وتفاقم الأزمات المالية والاقتصادية والاجتماعية والمعيشية، بهدف إضعاف شعبيته لمصلحة حزب “القوات” الذي اتجه إلى المعارضة المبكرة للتبرّؤ من المسؤولية، وتحميل العهد مسؤولية السياسات المالية والاقتصادية الريعية التي انتهجتها الحكومات الحريرية، وكانت القوات شريكة فيها وتسببت بكل هذه الأزمات، والعمل من قبل القوات على توظيف ذلك في حملة الانتخابات النيابية المقبلة لحصد أغلبية المقاعد المسيحية في البرلمان، وبالتالي إحداث تغيير في المعادلة النيابية لمصلحة سيطرة الأطراف الموالية لواشنطن على البرلمان لإعادة إنتاج السلطة وتحقيق الأهداف الأميركية.
ثالثاً، العمل على رفع الدعم عن المواد والسلع الأساسية الحيوية، والذي يشكل أحد شروط صندوق النقد الدولي، وبالتالي لا يريد الرئيس الحريري أن يتحمّل وزر رفع الدعم ونتائجه السلبية على المستوى الشعبي، وجعل العهد مسؤولاً عن ذلك، بحيث إذا ما ذلل الفيتو السعودي وشكل الحكومة يكون الرئيس الحريري قد خفف عبء رفع الدعم.
لكنّ السؤال الذي طرح في أوساط المراقبين والناس هو: ما الذي دفع السفيرتين الأميركية والفرنسية إلى التحرك، في هذا التوقيت، لتذليل العقدة السعودية من أمام تشكيل الحكومة؟
في الإجابة على هذا السؤال، من الواضح أنّ هناك سببين اثنين وراء مسارعة السفيرتين إلى ذلك:
السبب الأول، تخوف واشنطن وباريس من أن يؤدي تفاقم الأزمات إلى انفلات الأمور من أي ضوابط، وتحلل مؤسسات الدولة وأجهزتها الأمنية، وبالتالي سيطرة حزب الله وحلفائه، على معظم المناطق بما فيها الحدود مع سورية، والحدود مع فلسطين المحتلة، الأمر الذي لا يصب أولاً، في مصلحة الخطة الغربية لحصار المقاومة اقتصادياً، وتأليب البيئة الشعبية ضدها، ولا يخدم ثانياً، أمن الكيان الصهيوني وأطماعه في ثروات لبنان.
السبب الثاني، قلق الدول الغربية من أن تذهب الأوضاع في لبنان إلى الفوضى والاضطراب الأمني والاجتماعي، وبالتالي اتجاه النازحين السوريين وعموم اللبنانيين إلى الهجرة الواسعة للغرب هرباً من جحيم الأزمات الاجتماعية والمعيشية، وما تسببه من تزايد في أعداد الفقراء، وفقدان الخدمات الأساسية في البلاد، وهذا يعني، بنظر المراقبين والمتابعين في لبنان، أنّ الاستمرار في الحصار الاقتصادي الذي تفرضه واشنطن والعواصم الغربية على لبنان منذ ما قبل تفجر احتجاجات 17تشرين، والتي أسهمت في تفجر الأزمة المالية والاقتصادية، أو الاستمرار في سياسة تعطيل تشكيل حكومة يشارك فيها التيار الوطني وحزب الله، لم يعد يخدم السياسة الأميركية، ومن خلفها السياسة الصهيونية، هو ما عكسته الصحافة “الإسرائيلية” التي تحدثت في الأيام الأخيرة عن ضرورة “مساعدة لبنان” حتى لا يقع تحت “سيطرة حزب الله وإيران” على حد قولها.
وفي هذا السياق، أكدت صحيفة يديعوت أحرونوت “الإسرائيلية”، في تقرير مطول لها “أنّ اقتراح الأمين العام لحزب الله (استيراد النفط من إيران) يجب أن يسبب القلق لإسرائيل، وهو ما دعا وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس، إلى التصريح بأنّ إسرائيل مستعدة لتقديم أي مساعدة للبنان، فضلاً عن أنّ الحكومة الإيرانية قد شدّدت أكثر من مرة على أنها ستنظر بجدية في تصدير النفط إلى لبنان إن تلقت طلبا في ذلك الصدد”.. وطبعاً هذه دعوة واضحة للدول الغربية كي تتحرك لمساعدة لبنان نيابة عن” إسرائيل” للحيلولة دون تدهور الأمور على نحو لا يخدم الأهداف “الإسرائيلية”، وهي دعوة يبدو أنها لاقت تجاوباً سريعاً من قبل الإدارتين الأميركية والفرنسية عبر الإيعاز لسفيرتيهما في بيروت الدخول على خط المساعي لتذليل العقبات التي تعترض تشكيل الحكومة اللبنانية.