الإنهيار السريع الحاصل على مُستوى سعر صرف الدولار الأميركي، لم يعد مُقبولاً على الإطلاق، وصار مُخيفًا لبلّ مُرعبًا، لأنّ كل إنهيار إضافي في قيمة العملة الوطنيّة، يعني عمليًا تعثّر المزيد من المُواطنين في لبنان عن تأمين أبسط مُقوّمات الحياة، وحتى عن توفير قُوتهم اليومي! فهل سعر صرف الدولار سيستمرّ بالصُعود؟.
لا شكّ أنّ أسباب إرتفاع سعر صرف الدولار تتجاوز مسألة المُضاربات التجاريّة، والطلب الماليّ المَصرفيّ، وألاعيب بعض الصيارفة، والضُغوط السياسيّة، إلخ. وهي تعود إلى أسباب عدّة مُجتمعة، أبرزها:
أوّلاً: غياب الحد الأدنى من الإستقرار السياسي الداخلي، وتعمّق الخلافات وتشعّبها، بما يتجاوز مسألة إستمرار التعثّر على صعيد تشكيل الحُكومة.
ثانيًا: إستمرار السحب مِمّا تبقّى من أموال المُودعين لدى المصرف المركزي، ولوّ بشكل بطيء وشحيح، لكنّه كافٍ لإثارة الذُعر بالوُصول إلى إحتياطي سلبي أكثر ممّا هو عليه حاليًا، نتيجة غرق الدولة في ديونها، وعجزها عن تأمين مصاريفها العاديّة.
ثالثًا: إستمرار التضخّم الهائل لحجم الكتلة النقديّة بالليرة اللبنانيّة في الأسواق، في ظلّ سياسة طبع عُملة من دون أيّ تغطية، بحجة إستمرار تمويل مرافق الدولة، الأمر الذي يزيد من سُرعة إنهيار قيمة العُملة الوطنيّة. وهذا المنحى مُرشّح للتصاعد أكثر فأكثر في المُستقبل القريب، بسبب إستحقاقات عدّة داهمة تتطلّب التمويل من جانب المصرف المركزي. حتى أنّ قرار تسليم جزء من الودائع المُدولرة بالليرة اللبنانيّة، وفق سعر صرف يبلغ 12000 ليرة لبنانيّة للدولار الواحد، هو غير سليم، وسيُساهم بدوره في رفع سعر الدولار.
رابعًا: محدوديّة الدولارات التي تدخل إلى لبنان في مُقابل تلك التي تخرج منه لتغطية تكاليف الإستيراد، لأنّ حجم الصناعة في لبنان مَحدود، على الرغم من التطوّر الذي بدأ يلحق بهذه الصناعة في المرحلة الأخيرة. لكنّ حتى المصانع اللبنانيّة هي بحاجة لإستيراد العديد من المواد الأوّليّة من الخارج لتأمين قُدرتها على الإنتاج المحلّي، ما يستوجب الحُصول على الدولارات من السوق المحلّي وتحويلها إلى الخارج.
خامسًا: بعكس ما يظنّ الكثيرون، إنّ تحويلات المُغتربين إلى لبنان والتي كانت قد بلغت في العام 2020 أكثر من 6 مليارات دولار أميركي، لم تُساهم في وقف إرتفاع سعر الدولار، وإن كانت ساهمت بدون أدنى شكّ في صُمود الكثير من العائلات حياتيًا ومعيشيًا. وتحويلات المُغتربين في الأشهر الستة الأولى من العام 2021، تراجعت بشكل طفيف مُقارنة بالعام الماضي، وهي في كلّ الأحوال جيّدة لضخّ الدولار في لبنان، لكنّها بالتأكيد لا توقف إرتفاع سعر الصرف. والحديث عن "صيفيّة ولعانة" ستجلب مليارات الدولار إلى لبنان غير دقيق، على الرغم من كثافة حركة الوافدين إلى مطار بيروت يوميًا. والسبب أنّ النسبة الأكبر من هؤلاء تقوم بتصريف كميّات محدودة من دولاراتها، لما يكفي نفقات عطلتها لا أكثر ولا أقل، والبعض يستخدم ما له من أموال مَحجوزة في المصارف، إن بالعملة اللبنانيّة أم بالدولار عبر سحبها على سعر صرف 3900 ليرة.
سادسًا: يُمكن القول إنّه على الرغم من مُغادرة نحو نصف العاملين الأجانب لبنان، وتراجع سفر اللبنانيّين إلى الخارج للسياحة بنسبة تزيد على 95 %، وتراجع إستيراد السيارات والأدوات الكهربائيّة والألبسة والعديد من السلع الترفيهيّة وحتى الغذائيّة من الخارج، إلخ. بنسب كبيرة جدًا تتجاوز الثلثين، الأمر الذي حدّ من خروج الدولارات من لبنان إلى الخارج، لا يزال الطلب على الدولار أعلى ممّا هو مَعروض في السُوق.
وممّا سبق، يُمكن الإستنتاج أنّ سعر صرف العملة الخضراء سيستمرّ بالصُعود في الأسابيع والأشهر المُقبلة، ما لم تحصل سلسلة من التطوّرات الأساسيّة، وهي:
أوّلاً: تشكيل حكومة جديدة وليس أيّ حكومة أو مُجرّد حُكومة لتنظيم الإنتخابات النيابيّة والإشراف عليها، بل حُكومة تحمل في تركيبتها ما يُمكن أنّ يؤمّن أكثر من مُجرّد صدمة إيجابيّة ظرفيّة، ويُمكن أن يُعيد الإستقرار السياسي الداخلي، علمًا أنّ لبنان مُقبل على إستحقاقات إنتخابيّة حسّاسة، ما سيُبقي أجواء التوتّر قائمة.
ثانيًا: فتح باب التفاوض اليوم قبل الغدّ، مع صُندوق النقد الدَولي ومع المُجتمع الدَولي، وذلك لإعادة جدولة الدُيون، ولتأمين قُروض ومُساعدات ماليّة عاجلة، ما سيُتيح ضخّ كميّات كبيرة من الدولارات في السُوق، في أسرع وقت مُمكن، علمًا أنّ هذا النوع من المُفاوضات يستغرق فترات زمنيّة طويلة لإتمامه.
ثالثًا: وضع خُطة إقتصاديّة واضحة، تُشجّع على الإستثمار المحلّي وخُصوصًا الخارجي، وتجذب السيّاح إلى لبنان على مدار السنة وليس خلال الصيف فحسب، وذلك لتخفيف نسب البطالة، وبالتالي لإيجاد فرص عملولإعادة تحريك الدَورة الإقتصاديّة تدريجًا.وتحقيق هذا الأمر يتطلّب مُعالجة البنى التحتيّة، من طرقات وإنارة وكهرباء ومياه وشبكة إنترنت، إلخ. وهو طريق طويل وشاق، ولاتتوفّر الأموال أصلاً لإنجازه!.
رابعًا: وضع خُطة ماليّة واضحة، تُعيد التوازن إلى ميزانيّة الدولة، لجهة رفع الواردات وخفض النفقات، وخُصوصًا وقف الهدر والشروع في مُكافحة الفساد. والأهمّ من كل ذلك، وقف كل أنواع التهريب إلى خارج الحُدود، بما يستنزف مُقدّرات الدولة، ويحرم اللبنانيّين من سلع ومن مواد هم بأمسّ الحاجة إليها، ودَفعوا ثمنها من ودائعهم، علمًا أنّ قوى الأمر الواقع وشبكات المُهرّبين أثبتت خلال السنوات الماضية أنّها أقوى من الدولة، وقادرة على التفلّت من إجراءاتها.
خامسًا: وضع خُطة إنقاذيّة لإعادة تنظيم المصارف، ولإعادة الثقة للعلاقة بين هذه الأخيرة والمودعين، وذلك عبر رسم خريطة طريق لإعادة الأموال، ولوّ بشكل تدريجي وعلى فترة زمنيّة طويلة. فمُجرّد الإلتزام علنًا بخطة عادلة وواضحة، من شأنه سحب حال الهلع، وإبطاء عمليّات السحب، لكنّ المُشكلة أنّ لا الدولة ولا المصارف، هم على إستعداد لتحمّل جزء من الخسائر التي مُني بها الشعب اللبناني والتي طالت ودائعه في البُنوك.
في الختام، حتى اللحظة لا ضوء أبيض في نهاية هذا النفق المُظلم الذي نمرّ فيه، والمُشكلة أنّ القُدرة على الصُمود لفترة أطول تتلاشى تدريجًا لدى المزيد من شرائح المُجتمع اللبناني، في ظلّ لا مبالاة وعناد وعنجهيّة غير مسبوقة لدى المسؤولين المعنيّين.