توفي منذ بضعة أيام في دمشق القائد الفلسطيني المجاهد أحمد جبريل مؤسس الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين والذي قضى عمراً من الكفاح وحيثما اقتضى الأمر من أجل رفع لواء فلسطين وخدمة قضية الفلسطينيين المحقة لا يخشى في الله لومة لائم ولا ترهبه التهديدات ولا تجذبه المغريات مهما كبر شأنها أو صغر،ولا يهادن ولا يساوم لأن بوصلته كانت باتجاه واحد لايتغير أبداً وهي فلسطين وشعب فلسطين يحذوه الإيمان المطلق بأن المقاومة مستمرة إلى أن يستعيد كل الفلسطينيين حقهم في أرضهم وتاريخهم وترابهم ودولتهم.
لقد استضافني وابنه بدر في أحد المواقع المقاومة لأتحدث إلى المخيم الشبابي الذي أقاموه هناك وأخذ يسرد لي تاريخ كل صخرة وجبل وخندق حفروه بسواعدهم لحماية المقاومين من الاستهداف الإسرائيلي الغاشم ولضمان استمرار العمل المقاوم.
لم يكن أحمد جبريل شخصاً بل كان قضية وكانت حياته كلها بكل تفاصيلها ويومياتها تدور حول تقديم أفضل الخدمات الممكنة لهذه القضية وضمان استمراريتها وعزتها إلى أن يتحقق النصر المرتجى. لم يكن يهادن ولا يمالئ مهما اشتدت الضغوطات أو تكالبت عليه الأحداثالمجحفة لأن الإيمان بقضيته كان نبراسه الدائم ومشعله الذي لم ينطفئ يوماً. تصغي إليه فتعلم أنك أمام موسوعة من الجهاد الصادق المخلص المؤمن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وكان وفياً لكل من يدعم قضية شعبه العربي الفلسطيني بصدق وإخلاص؛ ومن هنا ليست مصادفة أن يبدأ مسيرته النضالية من سورية ومع الجيش العربي السوري وأن يحتضن تراب سورية جسده الطاهر الذي أعياه اتّقاد الروح والضمير والوجدان.
لقد قدّم له بعض المقربين كل التسهيلات والمغريات كي يغادر سورية حين بدأت تتعرض لحرب إرهابية شرسة في عام 2011 ولكن ليس من صفة المقاومين أن يهجروا العرين وقت الشدّة؛ فرفض وبقي مرابضاً ومتابعاً لأدق تفاصيل الأحداث مع التعبير المستمر عن إيمانه بأن مصير سورية وفلسطين مصير مشترك وأنه لا فرق لدى العدو الآثم بين المعارك التي يخوضها الفلسطينيون والسوريون؛ فالجغرافيا واحدة والتاريخ واحد والمصير مشترك لنا جميعاً سواء أدركنا ذلك أم لم ندركه.
اتصل بي صديق عزيز من بيروت ليقدم لي التعازي ويسألني عن كيفية التواصل مع الأسرة الكريمة وبعد دقائق من الحوار اكتشفنا أنني أتحدث عن المناضل أحمد جبريل بينما هو يقصد تقديم التعازي لمناضل عروبي آخر اختار دمشق قلعة لحياته النضالية والسياسية وقضى بعد ثلاثة أيام من وفاة أحمد جبريل ألا وهو الأستاذ محمدسليم الهرماسي (أبو سليم) الذي غادر تونس في أيام شبابه لينضم إلى الصف العروبي القومي ويمضي عمره في خدمة فكره القومي الوحدوي الذي رأى به خلاصاً وحيداً لكل عذابات البلدان العربية.
لم يعترف أحمد جبريل ولا محمد سليم الهرماسيبسايكس بيكو ولم يؤمنا يوماً بأن الدولة القُطرية قادرة مهما علا شأنها وكثرت مواردها أن توفر أسباب القوة لشعبها بمنأى عن المدّ العروبي القومي لأن العمل من منظور الأمة الواحدة كان بالنسبة لكليهما هو الشرطالأساسي لموقع عربي محترم على الخارطة الإقليمية والدولية.
ولا شك أن كل ما تعانيه بلداننا العربية من ويلات اقتصادية وسياسية واجتماعية ناجم في جوهره عن انحراف الرؤية وعن المعالجة القاصرة لجوهر هذه المعاناة ومسبباتها وشروط انتهائها؛ إذ أن كل بلد يحاول أن يجترح المعجزات ويتجاوز الصعوبات التي يستحيل تجاوزها إلا بتعاون إقليمي عروبي حقيقي يحقق التكامل بين مقدرات هذه الأمة ويفتح السبل لأبنائها للبناء والعيش على جغرافيتها بدلاً من الهجرة الدائمة والمحمومة باتجاه دول الغرب بحثاً عن العيش الكريم.
إن تعقيد الظروف اليوم في كل قطر على حدة وتضاعف الاستهداف من قبل قوى داخلية وخارجية وانسداد المنافذ لا يعني أبداً أن التركيز على الحل الأكبر والأمثل هو ضرب من الجنون لأنه بعيد المنال ولأن الطريق إليه وعرة ومحفوفة بالمخاطر.
على العكس من ذلك إن اشتداد العاصفة وتكاتف قوى الشرّ والعدوان لتوجيه السهام المتتالية إلى قلوب بلداننا يعني بالضرورة أننا بحاجة للتفكير الاستراتيجي غير التقليدي الذي يحلّق فوق كل هذه الصعوبات الآنية ويرسم السبل المجدية لتجاوز كل أسباب الوهن والفرقة متكئاً على ثقافة الأجيال التي لابد من إرساء أسسها وضمان استمراريتها بما يخدم هدف المشروع وضمان بلوغه مرتجاه في المستقبل.
لقد أدرك أحمد جبريل معنى الحياة وآمن أن العيش والبذل من أجل قضية يؤمن بها الإنسان هو أسمى معنى من معاني الحياة؛ فكان رجلاً أكبر من الحياة وأغنى من الغنى وأصلب من الصلابة وأوفى من خلان الوفى. ماذا يريد العابر في هذه الحياة، وكلنا عابرون، أطيب من هذا الأثر وأجمل من هذا الذكر وأنبل من هذا الإرث؟
أما محمد سليم الهرماسي (أبو سليم) فقد اعتنق العروبة عقيدة، مؤمناً إيماناً مطلقاً أنها المبتدأ والمنتهى، وأن دمشق قبلة العروبيين هي دائماً وأبداً الحاضنة والراعية والقادرة على القبض على الجمر وعلى السعي الحثيث والدائم لتحقيق ما يصبو |ليه كل العرب الشرفاء.
رحم الله مجاهدينا ولتبقى سير حياتهم منارة للأجيال ومصدر قوة لكل الحريصين على هذا الإرث المشرّف والمدركين للمعنى الأجمل والأسمى للحياة سواء على المستوى الشخصي أو الوطني أو العالمي؛ فالحقيقة واحدة في كل زمان ومكان.