ما لم تستطع «إسرائيل» تحقيقه بحربها العدوانيّة على لبنان عام 2006، بمباركة الولايات المتحدة وحلفائها في أوروبا والمنطقة، تريد واشنطن اليوم، بالنيابة عن الجميع تصفية الحساب سلميّاً مع المقاومة عن طريق تشديد الخناق المعيشيّ على الشعب اللبناني. واشنطن تريد تركيع لبنان، وتحميل المسؤوليّة الكاملة عن الانهيار الاقتصادي، والمالي والمعيشي في ما بعد، لحزب الله والبيئات المؤيّدة والداعمة له. علماً أنها تعرف جيداً من كان وراء الانهيار المالي والمعيشي، ومن تسبّب به. ولو كان لدى الولايات المتحدة، ومعها الاتحاد الأوروبي النيات الطيبة فعلاً، لإخراج لبنان من محنته لفعلت. إذ كان بإمكانها منذ بداية الأزمة المالية اتخاذ إجراءات، وعقوبات رادعة ضدّ الذين يأخذون البلد إلى الهاوية، خاصة أنها تعرف جيداً بواطن الأمور وخفاياها، وحقيقة ما يجري في لبنان على أيدي حلفائها، والسائرين في ركابها، والداعمين لسياساتها.

لو كانت واشنطن تريد حقاً مساعدة لبنان وانتشاله من أزمته، ومن وضعه الاقتصاديّ الكارثيّ، لدعمت بكلّ قوة حكومة حسان دياب قبل استقالتها. وكان بمقدورها أيضاً أن تكشف النقاب عن وجوه الذين أفلسوا البلد، وهرّبوا الأموال، وسرقوا اللبنانيين. وكان بإمكانها بما لديها من وسائل الضغط والقوة والتأثير، العمل على تطويق هؤلاء، وحملهم على تصحيح الوضع، لكنها لا تريد أن تفعل، بينما هي تطارد اللبنانيين في كلّ مكان في الخارج لمعرفة مدى علاقتهم وارتباطهم بالمقاومة، لا سيما بحزب الله، وفي ما بعد للاقتصاص منهم، وتوقيفهم

عشوائياً، ومحاكمتهم أميركياً.

واشنطن تريد إنقاذ لبنان على طريقتها الخاصة بها، لا سيما بعدما جرى من متغيّرات وتطوّرات شهدتها دول في المنطقة، حيث تضع في حساباتها عدة أمور حساسة، تأخذها بالاعتبار، وهي ترصد وتتعاطى مع الوضع اللبناني المنهار وأبرزها:

1 ـ تصاعد المقاومة المسلحة ضدّ الاحتلال الأميركي، وتمركزه العسكري، في سورية والعراق، وبداية غرق واشنطن مرة أخرى في المستنقع العراقي، وما يرافقه من عمليات عسكرية نوعية ضد قوات الاحتلال، وفي عمقه.

2 ـ تقهقر الولايات المتحدة في أفغانستان، بعد عشرين عاماً من احتلالها العسكري لهذا البلد للقضاء على القاعدة والطالبان. ورغم مئات الآلاف من الضحايا الذين سقطوا على أيدي القوات الأميركية، والإفراط في استخدام القوة، وإنفاق مئات المليارات من الدولارات على الحرب العبثيّة، تجد واشنطن نفسها مرغمة على الهزيمة والانسحاب، وهي ترى بعد عقدين من الاحتلال، حركة طالبان تتحضر وتستعدّ لتسلّم السلطة من جديد.

3 ـ رغم كلّ الضغوط السياسية والاقتصادية والمالية التي مارستها واشنطن على لبنان، للسير به الى حالة تهدف من خلالها تأليب الرأي العام اللبناني ضدّ المقاومة، وتحميلها مسؤولية ما يحصل من انهيار معيشي وخدمي، فشل فشلاً ذريعاً. كما سقط أيضاً، الخطاب السياسي الموحّد بين قوى الهيمنة الغربية المتربصة بلبنان والمنطقة، ومعها أتباعها في الداخل، خطاب كرّر على مدى سنوات أسطوانته المشروخة، من أنّ حزب الله يسيطر على الدولة، ويتحكم بقرارها،

وهو دولة داخل الدولة، وسلاحه يهدد البلد وأمنه! هذه الادّعاءات المغرضة لم تعط نتيجتها المرجوة، إذ لو كان حزب الله فعلاً يسيطر على القرار، لما سمح لهذا الانهيار أن يحصل، ولما سمح للفاسدين ان ينهبوا البلد، ويسرقوا ودائع المواطنين، ولما سمح للاحتكاريين ومقاولي البلد أن يعبثوا بحقوق وحياة المواطنين.

4 ـ لم تستطع الضغوط والسياسات الأميركية من ترويض إيران، أو شلّ قدراتها، أو الحدّ من تأثيرها وتفاعلها مع أحداث المنطقة وتطوّراتها، أو منعها من مواجهة سياسات الهيمنة الغربيّة، واعتداءات دولة الاحتلال الصهيوني، أو كفّ يدها عن تقديم كافة وسائل الدعم للمقاومات في المنطقة، أكان ذلك ضدّ الاحتلال «الإسرائيلي» لفلسطين، أم ضدّ الاحتلال الأميركيّ لأراضٍ سوريّة وعراقيّة.

5 ـ قلق الولايات المتحدة من أيّ توجّه لبناني نحو الشرق، وبالذات باتجاه إيران أو الصين، وحتى روسيا، لا سيما بعد أن تقدّمت بيكين بعروض مشجّعة لمساعدة لبنان، والتي جاءت بعد مذكرة تعاون تمّ الاتفاق عليها بين الصين وإيران لتنفيذ مشاريع على مدى 25 عاماً بقيمة إجمالية تبلغ 400 مليار دولار، ومرشحة للزيادة، وبعد عرض صينيّ كبير للقيام بمشاريع ضخمة في العراق.

6 ـ فشل الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، و«إسرائيل»، في تعليق آمالها على دول إقليميّة كانت بمثابة حصان طروادة، لإسقاط الدولة في سورية والعراق، من خلال دعمها للفصائل المسلحة والتنظيمات الإرهابية، بغية الإطاحة بالأنظمة الوطنية، وتفتيت نسيجها القومي، وتقسيمها وإقامة دويلات طائفية على أرضها، تأتمر بها، وتدور في فلكها.

7 ـ تنامي قدرات وأداء المقاومة الفلسطينية في غزة، وامتلاكها أسلحة متطورة لا سابق لها، بدأ يقضّ مضاجع المحتلين، ويثير مخاوف الغرب وحلفائه، ما عزز ليس فقط قوة المقاومة الفلسطينية، وإنما عزّز أيضاً محور المقاومة في المنطقة ككلّ، وهي تتحرك في إطار استراتيجي موحّد داخل محورها.

8 ـ لم تستطع قوى الهيمنة الغربية، من خلال ضغوطها، ونفوذها وتهويلها، فصل لبنان عن محيطه وشرقه، وبالذات عن إحدى رئتيه سورية، وإبعاده عن أيّ تنسيق او تعاون مع إيران، أياً كان حجمه، وذلك للاستفراد به في ما بعد، وجرّه الى بيت الطاعة الأميركي.

9 ـ عدم ارتياح الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي،

وحلفائهما في المنطقة، للزخم السياسي والعسكري لروسيا في المنطقة المشرقيّة، من خلال نشاطها السياسي والدبلوماسي الملحوظ، وتمركزها العسكري القوي في قاعدة حميميم في سورية. لذلك نجد الضغوط الأميركية تمارس على لبنان بكلّ قوة، ومنعه من إقامة أيّ تنسيق أو تعاون اقتصادي أو تنموي أو بنيوي مشترك، او القبول بمساعدات متنوعة تأتي من روسيا أو سورية أو العراق أو إيران أو الصين، وذلك ليبقى في قبضة واشنطن وحلفائها، وعدم السماح له مطلقاً الإفلات من نفوذ الولايات المتحدة، وهيمنتها، وتأثيرها على القرار اللبناني من خلال أركان المنظومة العميقة داخل الدولة.

10 ـ لم تستطع الولايات المتحدة تحقيق مآربها رغم إنفاقها أكثر من 500 مليار دولار على حلفائها، وفق ما جاء على لسان مساعد وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى جيفري فيلتمان أمام الكونغرس في جلسة استماع حول حزب الله في 8

حزبران 2010، لتشويه صورة المقاومة وحزب الله. وعلى الرغم من الانهيار المالي والنقدي والوضع الاقتصادي والمعيشي الكارثي، الذي يعانيه اللبنانيون، لم تستطع أن تحقق مرامها في تفكيك بيئة المقاومة وحاضنتها، إذ ظلت المقاومة وبيئتها

حتى اللحظة، متأهّبة، متماسكة، بكامل قوتها، وجهوزيتها، ووحدتها.

أمام هذه الحقائق، تريد واشنطن الإمعان في الضغط على لبنان، من خلال طرح ما تريده منه، والقبول بإملاءاتها وشروطها، لتعيده الى زمن الوصاية الدولية، تقرّر عنه، وينفذ ما يطلب منه. لذلك، يجب أن يحوز اسم رئيس الحكومة على موافقتها ورضاها، وأن يكون لحكومته برنامج صريح وواضح، لا سيما في تطبيق القرارين 1559 و1701. وسحب سلاح المقاومة وحصره بيد الجيش اللبناني، ونشر قوات دوليّة في لبنان، وعلى طول الحدود، بذريعة حفظ الأمن وضمان الاستقرار، وإبعاده عن محيطه المقاوم، ومن ثم حصر المقاومة في دائرة جغرافيّة ضيقة للانقضاض عليها في ما بعد.

وهذا ما يمهّد لإعادة استىناف المفاوضات غير المباشرة مع الكيان «الإسرائيلي» حول المنطقة الاقتصاديّة الحصريّة، وانتزاع اعتراف لبنان بمطالب «إسرائيل» في الجزء الذي تريد أن تستولي عليه في منطقته الاقتصادية الحصرية. وأيضاً جرّ لبنان في ما بعد للقبول بصفقة القرن، وتوطين الفلسطينيين على أرضه، ومن ثم الاعتراف والتطبيع مع العدو، وطي صفحة القضية الفلسطينية وحقوق لبنان نهائياً!

بوجود مقاومة، ووجود محور داعم لها، لا يمكن لهذا المخطط المرسوم أن يمرّ، مهما غلت التضحيات. هذا ما يجب أن تحسب حسابه واشنطن مع حلفائها وتأخذه بالاعتبار!

لكن يبقى رهان واشنطن القويّ على البعض في الداخل اللبناني، حيث من خلاله ستتحرك مستقبلاً، بعد أن

ارتفعت في الآونة الأخيرة، أصوات من هنا وهناك تطالب بالحياد والتدويل والفدرالية، وباستقدام قوات دوليّة! مطالب وطروحات، تصبّ في صالح دعاة التقسيم الذي يظرّفوه ويخففوا من وطأته ومن ردود الفعل، من خلال المناداة بالفدرالية.

لكن واشنطن التي تدفع في هذاالاتجاه، ستجد في طريقها موقفاً حازماً، ورفضاً مطلقاً من قبل الشعب اللبناني لهذا الطرح المشبوه. إلا انّ واشنطن لن تقبل بسهولة هزيمة مشروعها، بل ستندفع أكثر باتجاه تأليب اللبنانيين، وتحريضهم على بعضهم البعض، وأخذهم الى الفوضى الداخليّة، وإلى المواجهة الساخنة، ليتسنّى لمن يغزل على المنوال الأميركي أن يطلب «النجدة»، وينادي جهارة بالتدخل الخارجي، والإتيان بقوات أجنبية دولية، حتى ولو كانت خارج إطار الأمم المتحدة، لفرض الأمر الواقع

بالقوة، وإنْ أدّى ذلك الى تدمير وطن وقتل شعب!

لهذا البعض نقول: إياكم واللعب بالنار، لأنها ستحرق الجميع، وستدمّر وطناً بأكمله، والمستفيد معروف: قوى التسلّط الغربية وقاعدتها «إسرائيل»!

لا تأخذكم المغامرات والأوهام، ولا تستقووا بواشنطن وتعوّلوا عليها، طالما هناك شعب أبي ومقاومة باسلة. سلوا شعوب أميركا اللاتينية، وسلوا شعوب العالم التي اضطهدت على يد قوى الاستعمار والاستبداد القديمة، واليانكي الجديد، منها تأتيكم الحقيقة، علكم تأخذون العبرة وتتعظون، وتعودون الى الموقع الوطني الصحيح، حتى لا يأخذكم السراب وتغرقون في المستنقع!

ـــــــــــــــــــــــــــ