في سابقة ديبلوماسية ناشزة لا مثيل لها لبنانياً وربما عربياً، قامت سفيرتا فرنسا آن غريو وأميركا دوروثي شيا العاملتان في بيروت بزيارة مشتركة إلى العاصمة السعودية الرياض وذلك لبحث الوضع السياسي والاقتصادي اللبناني مع المسؤولين السعوديين وعلى الأثر صدر عن السفيرتين الفرنسية والأميركية بيان مشترك يؤكد ضرورة تشكيل حكومة لبنانية كاملة الصلاحيات قادرة على مكافحة الفساد وتنفيذ الإصلاحات المطلوبة.
وأثناء اجتماع سفراء الدول الغربية العاملة في لبنان تلبية لدعوة من رئيس حكومة تصريف الأعمال في السراي الحكومي لشرح مخاطر الحصار الغربي الأميركي المفروض على لبنان تقصدت كل من سفيرة فرنسا غريو وسفيرة أميركا شيا توجيه انتقادات لاذعة ومهينة وبشكل مستفز طالت الطبقة السياسية اللبنانية في تجاوز فاضح لكل القوانين المرعية التي حددت صلاحيات وعمل السفراء.
دبلوماسياً ما قامت به سفيرتا فرنسا وأميركا العاملتان في لبنان يعتبر تجاوزاً فاضحاً للأصول الدبلوماسية، وخرقاً سافراً للسيادة الوطنية وإهانة لكرامة لبنان ولكرامة كل المسؤولين اللبنانيين.
إن صمت وزارة الخارجية اللبنانية وعدم صدور أي بيان رسمي أو اعتراض من المسؤولين اللبنانيين احتجاجاً على تحرك السفيرتين الخارق للسيادة اللبنانية لهو دليل دامغ على عجز معظم النخب السياسية اللبنانية عن اجتراح الحلول الإنقاذية للبنان وشعبه ودليل دامغ على خنوع معظم المسؤولين اللبنانيين لإرادة البيت الأبيض وقصر الإليزيه.
إن التفاوض المشترك لسفيرتي دولتين غربيتين مع دولة أخرى حول شؤون البلد الذي يعملان فيه يبشرنا بعودة زمن الانتداب والوصاية الغربية وبتكليف السفيرتين بمهام المفوّض السامي على هذا البلد.
المسؤولون في لبنان يتغنون باستقلال وسيادة لبنان لكن مجريات الأمور في لبنان تشير إلى الحقيقة الدامغة المرّة بأننا لا زلنا تحت الانتداب الفرنسي الأميركي سياسياً واقتصادياً.
وبعد مرور أكثر من سبعة عقود على نيل استقلالنا المزعوم ثبت لدينا أن ثوابت السياسة الغربية عموماً والأميركية خصوصاً في لبنان هي أن لا ثوابت فيها، فيما تأكدنا من ثابتة غربية واحدة لم تزل فاعلة ونشطة حتى يومنا هذا وهي ثابتة زرع الفساد بكل مفاصل الدولة اللبنانية وعن سابق تخطيط وتصميم، فالفساد المستشري هو السم الزعاف القاتل لمفهوم الدولة وقاطع الطريق لأي تطور تنموي اقتصادي وسياسي وعسكري وفكري وعلمي ومانع لأي تخطيط إستراتيجي مستقبلي ومعطل لأي تقدم يمكنه بلوغ الإنسان اللبناني.
الغرب المستعمر وأميركا اعتمدا خطة زرع الفساد في لبنان من خلال تنصيب قادة فاسدين أتقنوا لعبة الفساد وتركهم يتحكمون في مفاصل الدولة وهم رؤساء سابقون وحاليون ورؤساء مجالس وإدارات ومؤسسات تابعة للدولة قاموا باحتكار مقدراتها ونهب الأموال العامة وإفراغ الخزينة على حساب إفقار وإذلال الشعب، بعدما شكلوا منظومة فساد متماسكة يصعب اختراقها محمية من قبل المستعمر الغربي شرط التزام أعضاء المنظومة لأجندات وأهداف الغرب المستعمر ولو كانت تلك الأهداف تأتي على حساب طمس السيادة الوطنية أو إنها تأتي على حساب قهر الشعب الذي أضحى شعباً محروماً من أبسط مقومات الحياة الكريمة.
إن الفساد لا يمكن حصره بالسطو على الأموال العامة أو بالحصول على رشاوى، إنما الفساد الحاصل هو تأشيرة مرور لتحقيق كي الوعي وهو إفساد للعقيدة الوطنية وتخريب للعقل وللمبادئ وإلغاء للضمير الإنساني، فحين يسود الفساد يتعطل الانتماء الوطني وتطمس السيادة الوطنية وتستبدل بالحقوق الطائفية والمذهبية ويلغى التفكير بالقيم والمبادئ الوطنية ويودع الإنسان إنسانيته، عندها تسود الفوضى والخراب في مجتمعنا وبأساليب متعددة وهذا هو حالنا في لبنان.
من نافل القول إن هدف أميركا والغرب النيل من المقاومة اللبنانية التي أثبتت حضورها الإقليمي وحققت انتصاراً لعله الأول من نوعه في تاريخ الصراع العربي مع العدو الصهيوني.
نعترف بأن ما تصبو إليه أميركا خصوصاً والغرب عموماً وبدعم إسرائيلي هو حصار لبنان سياسياً واقتصادياً وتجويع شعبه لدرجة إذلاله وذلك بهدف النيل من المقاومة من خلال تأليب البيئة الوطنية الحاضنة للمقاومة لكننا وبكل وضوح نسأل:
هل كان باستطاعة أميركا والغرب تنفيذ ذلك الحصار الاقتصادي الجائر على لبنان وإفقار وتجويع وإذلال شعبه وتهديد مقومات مؤسسات الدولة اللبنانية بالانفراط لو وجدت نخبة سياسية لبنانية وطنية مخلصة غير متورطة بالفساد متعالية عن المصالح الشخصية تعمل لأجل مصلحة الوطن والمواطن؟
هل كان باستطاعة سفيرتي فرنسا وأميركا في لبنان القيام بما قامتا به من تطاول على السيادة الوطنية والتدخل السافر في الشؤون اللبنانية الداخلية وتجاوز ناشز لكل الأصول الدبلوماسية لو انتفض الضمير الوطني عند المسؤولين في لبنان؟
إن معظم المسؤولين اللبنانيين القابضين على مفاصل الدولة اللبنانية تبوؤوا أعلى مناصب المسؤولية ولعشرات السنين أمعنوا خلالها في نهب الدولة واحتموا بطوائفهم واستبدلوا الولاء للوطن بالطائفية والمذهبية ولم يبادروا يوماً إلى تجنيب لبنان كارثة الانهيار الحاصل لأنهم أعضاء فاعلون في منظومة الفساد المغطاة من دوائر غربية أرادت لبنان ساحة مباحة لتنفيذ مشاريع غربية تبقي الدولة اللبنانية في حال من الترهل ولتجعل شعبه وأجياله في معاناة دائمة مع تأمين الغذاء والدواء والماء والكهرباء والبنزين والغاز وحتى من أبسط قواعد الحياة الكريمة.
ولأن أعضاء المنظومة الفاسدة هم مجرد أداة لتنفيذ أوامر أميركا خصوصاً والغرب عموماً تراهم سجداً ركعاً يطلبون الطاعة والرضى من حماة المنظومة المستحكمة فقط لتغطية شوائبهم وفسادهم وجرائمهم بحق الوطن والمواطن حتى إن حاكم مصرف لبنان بات بحاجة إلى إذن مسبق من الإدارة الأميركية لصرف مستحقات الدواء أو لصرف اعتمادات المحروقات فيما الشعب يعاني من القهر والإذلال.
أعضاء منظومة الفساد في لبنان حملوا الهوية اللبنانية صورياً فيما هواهم أميركي غربي صرف وذلك طلباً لتغطية أميركية غربية عن فسادهم وحفاظاً على مكتسباتهم وخوفاً من أي عقوبات أميركية قد تطول أموالهم الشخصية المودعة في مصارف سيدهم الأميركي والغربي، ولاؤهم لأسيادهم ولو داسوا على السيادة الوطنية لذلك تراهم لا يجرؤون الانتفاض بوجه سفير أو مبعوث أميركي كان أم غربياً ذوداً عن كرامة وسيادة الوطن لأن وظيفتهم تختصر بتلقي البشائر وبتنفيذ الأوامر.
في لبنان لم نعد بحاجة إلى التنظير فيما يضمره الأميركي والغربي لبلدنا وشعبنا ولم نعد بحاجة إلى تبرير الانهيار والإذلال الحاصل، لكن الحقيقة هي أننا بحاجة ملحّة إلى عملية تطهير الوطن من أعضاء منظومة الفساد لأنهم يشكلون عائقاً دائماً أمام نهضة الدولة وأمام تأمين مصالح الشعب.
بيّن التنظير والتبرير والإقدام على التطهير من الفساد والمفسدين في الداخل قصة جهاد لا تقل أهمية عن جهاد محاربة العدو الصهيوني، فهناك مثال عربي قديم يقول: لا تدعو للجهاد قبل تطهير الداخل.
نختم بالقول: حيث وجد الفساد غاب الانتماء للوطن وتبخرت كرامة الشعب وطمست السيادة الوطنية.