تماماً كما جرى إبان «مسيرة الأعلام» في حزيران الماضي، التزمت السلطات الإسرائيلية، في ذكرى «خراب الهيكل»، بكبح لجام مستوطنيها، منعاً لأيّ تداعيات من شأنها إعادة تنشيط معادلة «غزة - القدس» التي لا تزال المقاومة محافِظة على مفاعيلها. على أن هذا الجانب، على أهمّيته، لم يكن العنصر الأبرز في مشهد اليومين الماضيين، بل كاد يتقدّم عليه «الاشتباك الأهلي» بين التيارات اليهودية نفسها، والذي أعاد تذكير الإسرائيليين بانقساماتهم، التي لم يمتنع رأس الهرم السياسي نفسه، أي رئيس الحكومة نفتالي بينت، عن اعتبارها شبيهة بالمقدّمات التي أدّت إلى «الخرابَين» الأول والثاني. تحذيراتٌ ظهر لافتاً سريانها على ألسنة عدد كبير من السياسيين والإعلاميين والمراقبين، في ما بدا إجماعاً على أن إسرائيل تُشارف، إن لم تستدرك حالة الكراهية المتعاظمة في داخلها، «خرابها الثالث» الذي قد لا ينجيها منه لا صديق ولا حليف
مرّت ذكرى «خراب الهيكل»، بحسب رواية الصهاينة لتاريخ القدس ودولتَيهم البائدتَين، من دون التسبّب في تصعيد كبير بين المستوطنين والمقدسيين. مردّ ذلك إلى اتّخاذ إجراءات حالت دون «انفلاش» التعبير عمّا يسمّونه «صهيونية» المدينة بشطرَيها، وهو ما مَنع ظهور ردّ فعل فلسطيني متطرّف، ومن ثمّ وقوع مواجهات، كانت لتتسبّب في تفعيل ما بات يُعرف بمعادلة «غزة - القدس»، والتي يحرص العدو على أن لا يُحرّك عواملها، ويعيد اختبارها من جديد. إلّا أن ذكرى «خراب الهيكل» في العام الحالي لم تكن موضع مراقبة لارتباطها بإمكان تجدّد التصعيد مع الفلسطينيين فحسب، بل أيضاً لانطوائها على بُعد آخر لم يسبق للإسرائيليين أن اختبروه بهذا الشكل، وهو البُعد الذي يمكن اختصاره بسؤالَين رئيسَين: هل تتّجه إسرائيل الحالية إلى «خراب ثالث» شبيه بـ»خراب» الهيكلَين السابقَين؟ وهل يمكن للإسرائيليين منْع مصير كهذا؟ علماً بأن عوامل الخراب، كما يرد على لسان أرفع المسؤولين في تل أبيب، هي عوامل داخلية مبنيّة على التفرقة والكراهية والعدوانية داخل صفوف اليهود أنفسهم، المجتمعين منذ عقود في فلسطين المحتلة.
بالأمس، برز في المشهد الإسرائيلي اتّجاهان: يتعلّق الأول بمسيرةٍ لمئات من المستوطنين، الذين جابوا عدداً من أحياء القدس عشية ذكرى التاسع من آب وفقاً للتقويم العبري القمري، في محاولة منهم لتأكيد «وحدة» القدس كـ»مدينة يهودية»، وبوصفها «العاصمة الأبدية» لإسرائيل، كما يقولون. وإذ حرصت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، على اختلافها، على أن تمرّ المسيرة من دون التسبّب في تصعيد مع المقدسيين، فهي نجحت في ذلك على ما يبدو. لكن، على خطّ موازِ، كانت المواقف والتصريحات والتعليقات التي ملأت الإعلام العبري تطرح جميعها سؤال «الخراب»، بعد أن باتت عوامله متوافرة، مثلما كانت عليه الحال في الماضي البعيد. لكنّ اللافت أن تلك المواقف لم تصدر عن مراقبين أو مُعلّقين أو أصحاب اختصاص في العلوم الاجتماعية، بل جاءت على لسان رأس الهرم السياسي، وهو رئيس الحكومة نفتالي بينت، إضافة إلى عدد آخر من السياسيين، كما لدى العاملين في المستويات البحثية ذات الصلة، الأمر الذي وجد تعبيراته أيضاً في الإعلام العبري، الذي تولّى بدوره مهمة التحذير من «الخراب».
والتاسع من آب، وفق التقويم العبري، يتعلّق بذكرى أليمة لدى اليهود، ولربّما هي الأشدّ إيلاماً في تاريخهم، كما يرد في موروثاتهم الدينية والثقافية؛ إذ هي تشير إلى «خراب الهيكل الأوّل»، وكذلك - للمفارقة -، في اليوم نفسه، «خراب الهيكل الثاني». و»الهيكلان» لا يعنيان مجرّد معبدَين يهوديَّين، بل الدولتَين اليهوديتَّين الوحيدتَين عبر التاريخ البعيد، واللتين لم تُعمّرا أكثر من سبعة عقود وعدّة سنوات أخرى. فهل هي سُنّة تاريخية يهودية من شأنها الانسحاب أيضاً على إسرائيل الحالية (الهيكل الثالث)، التي أكملت عقدها السابع وعدّة سنوات إضافية. في هذا الإطار، وفي موقف لافت في دلالاته، حذّر رئيس حكومة العدو، نفتالي بينت، من «الخطر التاريخي» المحدق بإسرائيل، والمتمثّل تحديداً في «الانقسام لدى الشعب اليهودي، والفشل في استكمال الاتّحاد في ما بينه، في العقد الثامن من السيادة الموحّدة» للكيان. وقال بينت: «فشلنا مرّتين وخسرنا دولتنا اليهودية. لقد كان للشعب اليهودي دولتان يهوديتان عبر التاريخ على أرض إسرائيل (في إشارة إلى فلسطين)، وفي المرّتين، لم ننجح في إكمال العقد الثامن كدولة مستقلّة، ويعود ذلك إلى الحروب الأهلية الداخلية (بين اليهود) والكراهية البينية».
لم تعُد الانقسامات تسمح بالحديث عن مجتمع يهودي واحد، بل عن مجتمعات مختلفة بينها كراهية وعداوة
دلالة كلام بينت تكمن في اعتباره أن المقدّمات التي أدّت إلى خراب الدولتَين، تكاد تستكمل تشكّلها الآن، وهو ما أوحى به بوضوح قوله: «عندما كنْت طفلاً، لم أفهم أبداً ما ورد في التلمود من أن الهيكل الثاني قد دُمِّر بسبب الكراهية (بين اليهود) التي لا أساس لها»، لكن «اليوم، أفهم جيّداً معنى ذلك»، في إشارة منه إلى الانقسامات السياسية والاجتماعية الراهنة في إسرائيل. هكذا، يتماهى الحاضر مع الماضي، وتحديداً في ما يتعلّق بـ»الكراهية بين اليهود أنفسهم»، كما سمّاها بينت، في تهديد داخلي لا يقلّ، بل ربّما يفوق التهديدات التقليدية التي تواجهها إسرائيل. ذلك أن الانقسامات في المجتمع اليهودي، بعد سبعة عقود على إنشاء «دولته»، لم تَعُد تسمح واقعاً بالحديث عن مجتمع واحد، بل عن مجتمعات مختلفة، ليس منفصلاً بعضها عن بعض فقط، بل بينها كراهية وعداوة وسعي متبادل للإضرار والإيذاء، بما أمكن، ومن دون توقّف. ولعلّ من أبرز وجوه هذا الواقع ما يلي:
انقسام يهودي داخلي بين متديّن وعلماني، وآخر بين متديّن صهيوني ومتديّن مُعادٍ للصهيونية، وثالث بين اليهود الأرثوذكس (الأغلبية في إسرائيل) واليهود الإصلاحيين وكذلك المحافظين (الأغلبية في الولايات المتحدة)، ورابع بين يهودي كامل ويهودي ناقص؛ فضلاً عن تكفير متبادل بين عدد من الفئات داخل اليهودية الأرثوذكسية نفسها، بين «حسيديم» و»متنكديم» و»شرقيين» و»غربيين» و»سفارديم» و»أشكيناز». ويُضاف إلى ما تَقدّم رفْض للاعتراف بشرائح معيّنة من حاملي الجنسية الإسرائيلية، كما هي حال خُمس سكّان الكيان من فلسطينيي 48، و»المهاجرين» إلى إسرائيل ربطاً بالأب اليهودي دون الأم، وكذلك المتهوّدون عبر طوائف غير أرثوذكسية. والانقسامات هنا لا تبقى من دون تعبيرات عنفية، أو في الحدّ الأدنى من دون خشية وقلق على الذات والحياة، يمنعان التواصل بين هذه الفئات، بل يوصلان إلى الانفصال التلقائي الوقائي عن الآخر.
أمس، ذكّرت إسرائيل نفسها بانقساماتها وكراهية مركّباتها بعضها لبعض؛ إذ اقتحم المئات من اليهود الأرثوذكس اليمينيّين ساحة الصلاة المخصّصة للطائفة اليهودية المحافِظة، ومنعوا المنتمين إليها من ممارسة العبادة وفق معتقداتهم وتعاليمهم، بما يشمل طرد المصلّين، وتحديداً النساء منهم، اللواتي يُعدّ أصل وجودهنّ في المكان استفزازاً لـ»الحريديم»، ليس لكونهنّ نساءً فحسب، بل وأيضاً من طائفة المحافظين، يدنّسن باختلاطهنّ مع الرجال مكاناً مقدّساً لليهود. والحيّز الجغرافي المتاح لهؤلاء جرى الاتفاق عليه بموجب تسوية توصّلت إليها واحدة من حكومات بنيامين نتنياهو عام 2016، ضمن مسعًى استهدف منْع تعمّق الخلاف بين يهود الولايات المتحدة وإسرائيل، إلّا أن هذه التسوية لم تكتمل، بعد «الفيتو» المتكرّر من الأحزاب الحريدية في الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة. ولم يقتصر تصعيد أمس بين التيارات اليهودية، على المشاجرة، بل أدّى إلى اشتباكات وعمليات كرّ وفرّ، رواها كلّ منهم وفق أهدافه، إذ أعلنت حركة «ليبا» الأرثوذكسية، التي تقود النضال ضدّ التيارات اليهودية الليبرالية في إسرائيل، أن مبادرتها جاءت كـ»جزء من النضال من أجل الهوية اليهودية لحائط المبكى»، الأمر الذي دفعها إلى العمل على «طرد هؤلاء من المكان»، فيما اعتبرت جهات مسؤولة في الطائفتَين الإصلاحية والمحافِظة أن على الحكومة والشرطة التدخُّل لوضع حدّ «للتنمّر الذي تغطّيه عباءات دينية».
وتخشى الحكومات الإسرائيلية من تداعيات أحداث كهذه، سواءً في حائط المبكى أم غيره، على علاقات يهود الشتات، وتحديداً في الولايات المتحدة وكندا، مع الكيان، لناحية تأثيرها السلبي المحتمل على ولاء اليهود الأميركيين لإسرائيل، والذي كان في السابق ولاءً شبه أعمى، فيما بات الآن موضع أخذ وردّ. ومع أن حكومات نتنياهو سعت دائماً إلى إيجاد تسويات ما، من شأنها إبعاد الخلافات بين التيّارات اليهودية عن الإعلام والحيلولة دون «انفلاشها»، بما يتيح تالياً حصْر تداعياتها وسلبياتها، إلّا أن معظم تلك التسويات باء بالفشل، نتيجة استمرار احتياج نتنياهو إلى رضى الأحزاب «الحريدية»، التي تنظر إلى التيّارات الدينية الأخرى نظرة تشكيك، تصل إلى حدّ إخراج الكثير منها من الديانة اليهودية، على تفصيل يصعب احتواؤه بالمطلق.
في محصّلة التاسع من آب اليهودي، مشهدان متعارضان: مسيرات ليلية قادها مستوطنون في سعي منهم لتأكيد «يهودية القدس»، مقابل مشهد آخر ظَهر فيه انقسام اليهود في ما بينهم ورفض بعضهم لبعض. هو إذاً إجماع على «يهودية القدس»، مقابل الخلاف على اليهودية نفسها! إلّا أن أهمّ ما في المناسبة هو تذكير الإسرائيليين أنفسهم، وعلى لسان رأس الهرم السياسي لديهم، بأن واحداً من التهديدات التي تشكّل خطراً وجودياً على الدولة العبرية، هو الكراهية الداخلية التي تصل إلى حدّ العداوة، وبأن ما تسبّب في السابق بـ»خراب الهيكلَين الأوّل والثاني»، قد يكون هو أيضاً سبب «خراب الهيكل الثالث»، حتى قبل البدء ببنائه.
إجراءات استثنائيّة لتفادي التصعيد مع غزة
لا تُعدّ مسيرة السابع من آب، وفقاً للتقويم العبري، تقليداً يهودياً مبنيّاً على معاني ذكرى «خراب الهيكلَين الأول والثاني» بحسب السرديات التاريخية والدينية اليهودية، بل هي تقليد حديث نسبياً، بدأ عام 1994، كردّ فعل على «اتفاقات أوسلو» ومسيرة التسوية بين الاحتلال و»منظمة التحرير الفلسطينية». والهدف كان ولا يزال تأكيد «السيادة» الإسرائيلية على مدينة القدس بشطرَيها، كـ»عاصمة أبدية» للكيان الإسرائيلي «غير قابلة للتقسيم»، على نقيض ما أُقرّ في حينه، بناءً على منطق التسوية وديباجتها المعلنة. هكذا، فإن حداثة هذا التقليد، الذي بدأ منذ 27 عاماً فقط، من دون أسباب ودوافع دينية، نزع عن المسيرة قابلية التوسّع، بحيث تقتصر فعالياتها على معناها الرمزي، عبر مشاركة عدة مئات من المستوطنين.
في المقابل، وهنا الأهمّ، عملت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، هذا العام، على منع أيّ إمكانية مادية للاحتكاك بين المستوطنين، على قلّة عددهم، وبين المقدسيين، سواء في ما يتعلّق بالمسيرة نفسها وأماكن اجتيازها وتجمّعاتها، أو بمنع المقدسيين مسبقاً من الوجود في أماكن الاحتكاك، كما خلصت إليها تقديرات الشرطة. وعليه، جاءت الإجراءات صارمة جدّاً ومتحكّمة بالميدان، إن لجهة المستوطنين أو لجهة المقدسيّين، إذ كان اهتمام إسرائيل، منذ البداية، يتركّز على اتجاهين اثنين، من شأن أيّ خلل فيهما الإضرار بالكيان وأمنه:
الامتناع عن تأجيل المسيرة أو إلغاؤها كي لا يكون ذلك تعبيراً جديداً ومحدثاً عن معادلة «غزة - القدس»؛ ومنع الاحتكاك كي لا يؤدي إلى تصعيد من شأنه جرّ الجانبين الى اختبار المعادلة من جديد، الأمر الذي ثبت أن تل أبيب غير معنيّة به.
بعد ساعات من مسيرة المستوطنين حول أسوار القدس القديمة واحتشادهم قبالة باب الأسباط، اقتحم ألف و600 مستوطن، صباح أمس، ساحات المسجد الأقصى من جهة باب المغاربة، وسط حراسة مشدَّدة من جانب قوات الاحتلال الإسرائيلي التي حوّلت المدينة إلى ثكنة عسكرية، مانعةً الفلسطينيين من التواجد في ساحات الحرم، بعدما اقتحمته وحداتها الخاصة عقب صلاة الفجر لتأمين اقتحامات ذكرى "خراب الهيكل". وتقدَّم الحاخام يهودا غليك المستوطنين الذين نفّذوا جولات استفزازية في ساحات الحرم، وتلقّوا شروحات عن "الهيكل" المزعوم، فيما قام بعضهم بتأدية شعائر تلمودية قبالة قبّة الصخرة.
وفي ختام جلسةٍ عقدها لتقييم الأوضاع الأمنية، أوعز رئيس الحكومة الإسرائيلية، نفتالي بينت، بمواصلة تأمين عمليات الاقتحام الصهيونية، وفق بيان مقتضب صدر عن مكتبه، قال فيه إن "حرّية العبادة مكفولة بالكامل لليهود، كما المسلمين"، في إشارة إلى مخطَّط التقسيم الزماني الذي تسعى سلطات العدو إلى فرضه في المسجد الأقصى، مشدّداً على أنه "سيتمّ الحفاظ كذلك على حرية العبادة في جبل الهيكل/ الحرم الشريف بشكل كامل للمسلمين".
ودعت حركة "حماس"، على لسان الناطق باسمها في القدس، محمد حمادة، إلى "الزحف والمرابطة في ساحات الأقصى وأزقّة البلدة القديمة، والمواظبة على هذا النفير إلى صلاة عيد الأضحى، لتفويت الفرصة على المحتلّ بالاستفراد بالمدينة والمسجد". واعتبرت أن" إطلاق الاحتلال العنان لمستوطنيه لا يعكس حالة سيطرة وسيادة، إنّما هو تعبير عن عجز ونقص يحاول ترقيعه، بعدما واجهه شعبنا في القدس والضفة والداخل المحتلّ وغزة العزة ببسالة". من جهته، أشار خطيب المسجد الأقصى، الشيخ عكرمة صبري، إلى أن "الاحتلال الإسرائيلي والجماعات المتطرّفة يستغلون المناسبات اليهودية لتكثيف اقتحاماتهم للأقصى، بهدف فرض واقع جديد فيه، ومحاولة السيطرة الكاملة عليه"، لافتاً إلى أن "شرطة الاحتلال منعت المصلين وحتّى الحراس من دخول الأقصى، وحوَّلت، منذ السبت، المسجد والبلدة القديمة إلى ثكنة عسكرية، وسيطرت على الأبواب لمنع الناس من الوصول إليه، ولمحاصرته". وأضاف أن العدو "يريد أن يبطش ويُنكّل بالمواطنين من أجل إتاحة المجال للمستوطنين لاقتحام المسجد الأقصى والإفساد في ساحاته". وانتقد صبري الصمت العربي والإسلامي إزاء ما يجري، متسائلاً: "أين الدول العربية والإسلامية ممّا يحدث في الأقصى، لا يوجد أيّ حراك سياسي ولا دبلوماسي من أجل وقف الاعتداءات الإسرائيلية".