من أكبر وأخطر مساوئ النظام الطائفي اللبناني انه يعيد إنتاج نفس الأشخاص او الزعامات الطائفية المسؤولة عن الأزمات التي أصبحت تسحق غالبية اللبنانيين...
كما أنّ من العوامل التي تساعد هذه الزعامات الطائفية على تعويم نفوذها في كل مرة يتراجع فيه هذا النفوذ تحت ضغط الأزمة، عدم توحد القوى صاحبة المصلحة في التغيير، لا بل بدل ان تسعى هذه القوى الى التلاقي وتكوين جبهة عريضة حول الأهداف المشتركة لتغيير هذا النظام الطائفي عبر فرض التغيير السياسي والاقتصادي وبناء حكم يقوم على المساواة والعدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية... نجد هذه القوى متنافرة ومتفرّقة وتعاني من غلبة الـ "أنا" والذاتية والفوقية. مما يضعف إمكانية بلورة إطار وطني لتنظيم حركة سياسية وطنية تغييرية تملك برنامجاً اقتصادياً واجتماعياً ووطنياً قادراً على استقطاب وتنظيم القوى الشعبية التي تعاني من الأزمات المتفاقمة التي تسبّبت بها السياسات الريعية التي انتهجتها حكومات الطبقة السياسية المسيطرة منذ عام 1992...
هذا الواقع المرّ والمأزوم، هو الذي يجعل اللبنانيين أمام إعادة إنتاج نفس السلطة، أيّ تسمية رئيس مكلف لتشكيل حكومة لا تختلف في مضمونها عن الحكومات السابقة التي أنتجت الأزمات... ومع الأسف يحصل ذلك في ظلّ شبه صمت وجمود في حركة قوى المعارضة الوطنية صاحبة المصلحة في التغيير، وحالة يأس وإحباط على المستوى الشعبي... الأمر الذي جعل مطالب الناس تتواضع إلى مستوى الدعوة إلى تشكيل حكومة ايّ حكومة فقط لوقف حالة الانهيار المتمادية والإذلال الذي يتعرّضون له للحصول على أبسط احتياجاتهم الأساسية، وهي سياسة أبدعت الطبقة السياسية الشريكة مع مافيا شركات احتكار المواد والسلع الأساسية، أبدعت في اتباعها لتركيع الناس، وجعلهم يسلّمون بأيّ حلّ يعيد تربع هذه الطبقة السياسية على عرش السلطة من جديد.
من هنا فإنّ المطلوب اليوم بالحدّ الأدنى تفادي تكرار التجربة المرة التي شهدتها البلاد بسبب تكليف سعد الحريري لتشكيل الحكومة، حتى من دون اتفاق مسبق معه يتضمّن طبيعة الحكومة وبرنامجها، مما أدّى إلى إضاعة أكثر من تسعة أشهر من الوقت من دون تأليف للحكومة.. وكانت النتيجة استفحال للأزمات على نحو أثقل كاهل اللبنانيين وزاد من حدة معاناتهم.. فقد كان سعر صرف الدولار لحظة تكليف الحريري، 6500 ليرة، وانتهى بعد اعتذاره إلى 22 و 23 ألف ليرة، وطبعاً هذا يعني بطبيعة الحال التهاب الأسعار وانهيار في القدرة الشرائية للمواطنين...
لهذا فمن الآن إلى يوم الاثنين موعد بدء الاستشارات النيابية لتسمية رئيس حكومة جديد مكلف تشكيل الحكومة، مطلوب الحذر الشديد من تكرار الوقوع مرة أخرى في نفس الخطأ، وبالتالي المسارعة من قبل الأغلبية النيابية إلى عدم اختيار رئيس مكلف من الذين أسهموا في إيصال البلاد إلى ما وصلت اليه َمن انهيار، وبالتالي الحرص على تسمية شخصية غير ملوّثة بالفساد ومستعدة لتبني برنامج إنقاذ وطني اقتصادي اجتماعي بعيداً عن مواصلة سياسة ربط لبنان بالمزيد من التبعية للغرب وسياساته الاستعمارية، وشروط صندوق النقد الدولي، وبالتالي السير في الحلول المتاحة لحلّ الأزمات والتي تعرض القيام بها الكثير من الدول، من خلال تنفيذ مشاريع للنهوض بالاقتصاد والبني التحتية والخدماتية من دون أن تكلف لبنان ايّ أعباء مالية... فالبلد لم يعد يحتمل هدراً للوقت، وهو بحاجة ماسّة إلى حكومة تأخذ القرارات الجريئة القادرة على كسر الحصار الأميركي، وتضع حداً للمعاناة التي يتعرّض لها المواطنون نتيجة الانهيار المستمر في قدرتهم الشرائية بفعل التلاعب بسعر صرف الدولار، وصعوبة الحصول على احتياجاتهم الحياتية الأساسية من دواء وكهرباء وماء ومواد غذائية ومحروقات... حيث باتت الشركات الاحتكارية تتحكم بهذه المواد والسلع وتعمد إلى حجبها عن السوق حيناً، وإنزالها بكميات محدودة حيناً آخر، بطريقة تمكّنها من جني الأرباح الطائلة، مستغلة الأزمة السياسية وغياب حكومة، وحاجة المواطن...
من هنا فإنّ الحاجة إلى تشكيل حكومة وفق برنامج محدد لوقف الانهيار والسيطرة على الأزمات وتوفير الاحتياجات الأساسية للمواطنين، يجب أن تكون هي أولوية الأولويات، بحيث يكون اختيار وتسمية رئيس الحكومة المكلف حصيلة اتفاق متكامل، يحول دون ان تدخل البلاد مرة أخرى في متاهة البحث عن الاتفاق على ماهية الحكومة وتوزيع الحصص فيها وبرنامجها، مما يؤدي إلى مزيد من إضاعة الوقت وتفاقم أزمات اللبنانيين...
وعندما نتحدث عن ضرورة هذا الاتفاق بين الأغلبية النيابية فهذا لا يعني المساومة او الترويج للرهان على مثل هذه الحكومة لإنتاج الحلول الجذرية التي يتمناها الناس، وإنما لأنه ليس هناك بديل افضل في الوقت الرهان قادر على إحداث التغيير الجذري السياسي والاقتصادي الذي يخرج البلاد من أتون الأزمات المستمرة،
ذلك أنّ موازين القوى السياسية القائمة لا تسمح بإحداث تغيير في تركيبة النظام الطائفي ووضع حدّ لاستمرار الصراع على توزيع الحصص لدى تشكيل ايّ حكومة جديدة.. فالبديل الثوري القادر على تحقيق هذا التغيير الحقيقي، الذي يلبّي طموحات الناس، غير متوافر حالياً، مع الأسف الشديد، ولا توجد مؤشرات على تبلور هذا البديل، أقله في المرحلة الراهنة.. أما بسبب عدم توافر تيار وطني متحد في جبهة عريضة عابرة للطوائف والمناطق تحظى بتأييد غالبية شعبية، أو بسبب استمرار تجذر الطائفية في الأوساط الشعبية، التي تمكن الزعامات الطائفية من استغلالها للحفاظ على نفوذها في السلطة وإعادة إنتاج هذا النفوذ عبر الانتخابات بوساطة أسلحة المال والخدمات والإعلام، والتعبئة الطائفية والمذهبية..
انطلاقاً مما تقدّم فإنّ الأطراف السياسية الأحرص على مصالح الناس مطالبة بالعمل علي منع الأطراف التابعة للغرب والمستقوية بالحصار الاقتصادي الذي يفرضه الأميركي على لبنان، من مواصلة استغلال الأزمة لتعويم نفوذها وإحداث انقلاب في الانتخابات المقبلة... وهذا الأمر يتطلب العمل على الحيلولة دون تحكم هذه الأطراف بعملية تشكيل الحكومة مرة أخرى، من خلال حصولها على تسمية رئيس مكلف من بين أركانها، ولنا في تكليف الحريري خير مثال.. لهذا يجب عدم الوقوع في الفخ مرة ثانية، فالبلاد لا يحتمل استمراراً في المماطلة والتسويف، والدخول في متاهة البحث عن اتفاق على جنس وتركيبة الحكومة وبرنامجها بعد التكليف.