بات من الواضح أنّ الاتفاق الأميركي العراقي إنما يستهدف تكريس ارتباط العراق بالولايات المتحدة، وإضفاء صيغة مبتكرة للتمويه وإضفاء الشرعية على بقاء قوات الاحتلال الأميركي تحت صفة مستشارين، وبالتالي محاولة خداع الشعب العراقي بالحديث عن إنهاء المهمات القتالية للقوات الأميركية في نهاية العام الحالي…
ولهذا يمكن القول إنّ الاتفاق الذي يتوّج ما سُمّي بالحوار الاستراتيجي بين بغداد واشنطن، إنما يشكل التفافاً واضحاً على قرار البرلمان العراقي الذي يدعو الى انسحاب كلّ القوات الأجنبية، وفي طليعتها الأميركية من العراق، ولم يتحدث عن الموافقة أو طلب بقاء هذه القوات لمساعدة القوات العراقية في المشورة والتدريب لمواجهة خطر تنظيم داعش، الذي تقف واشنطن وراء صناعته ودعمه لمواصلة عملياته الإرهابية، والتي جرى توقيت إحداها في مدينة الصدر عشية إعلان الاتفاق الأميركي العراقي، واجتماع رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي مع الرئيس الأميركي جو بايدن في البيت الأبيض، الذي أكد على الشراكة الاستراتيجية بين البلدين…
ومن الواضح أنّ هذا الاتفاق يتعارض بشكل صارخ مع قرار البرلمان العراقي وإرادة غالبية الشعب العراقي وقوى المقاومة التي أعلنت انّ الاتفاق لن يوقف استمرار عملياتها ضدّ القوات الأميركية المحتلة، التي جرى تمويه وجودها تحت عنوان مستشارين.
لكن لماذا تستميت واشنطن في محاولاتها الإبقاء على وجودها العسكري في العراق؟
إنّ أيّ مدقق في الخطط والأهداف الأميركية الموضوعة للعراق منذ إقدام الجيش الأميركي على غزوه عام 2003، ومن ثم عودته إليه عام 2014 بغطاء محاربة داعش، بعد انسحابه عام 2011 تحت ضربات المقاومة العراقية التي حوّلت احتلاله إلى جحيم لا يستطيع احتماله.. إنّ ايّ مدقق في أهداف وخطط واشنطن يدرك ما يلي:
أولاً، أهمية العراق في الاستراتيجية الأميركية الاستعمارية من ناحية، وعلى صعيد المنطقة من ناحية ثانية…
فالعراق يحتوي على احتياطات كبيرة وهامة من النفط تشكل مطمعاً للشركات الأميركية، وفي حال نجح العراق في التحرر من الهيمنة الأميركية، فإنّ هذه الثروة تشكل مصدراً مهماً لبناء دولة عراقية قوية مستقلة، وخطراً على النفوذ الأميركي في المنطقة من ناحية، وعلى وجود الكيان الصهيوني من ناحية ثانية.
ولهذا فإنّ واشنطن لا تزال تسعى الى تكريس الهيمنة الأميركية على العراق وتعزيز النفوذ الأميركي السياسي والأمني والاقتصادي فيه، لا سيما في مجال استخراج وتسويق النفط العراقي.. وبالتالي الحفاظ على بقاء القواعد الأميركية بغطاء القوات العراقية…
ثانياً، انّ الإبقاء على قوات أميركية في العراق إنما يستهدف أيضاً تأمين الخلفية والدعم للقوات الأميركية المحتلة في شرق سورية، وبالتالي الاستمرار في تغذية ودعم خلايا داعش لمواصلة حرب الاستنزاف ضد سورية والعراق، ولتبرير استمرار وجود القوات الأميركية في كلا البلدين، وتوفير الغطاء لها لتحقيق أهدافها السياسية والأمنية وأطماعها النفطية.. ومواصلة التدخل في شؤون سورية والعراق، ودعم القوى الموالية لواشنطن، لتعزيز نفوذها في السلطة على حساب القوى المعارضة والمقاومة لبقاء ايّ جود عسكري أو أمني للقوات الأميركية…
ثالثاً، منع التكامل الاقتصادي العراقي الإيراني السوري، والتواصل البري بين البلدان الثلاثة، وإحباط خطط تحقيق الربط البري بينها في مجالات النقل والطاقة والنفط والغاز وتحويل الساحل السوري إلى محطة أساسية لتصدير النفط والغاز العراقي والإيراني…
رابعاً، مواصلة الخطة الأميركية لإثارة أعمال التخريب والفوضى والاضطرابات في داخل إيران بالتعاون والتنسيق مع الموساد «الإسرائيلي» الذي ضبطت أجهزة الأمن الإيرانية بالأمس مخططاً له للتخريب وإثارة الاضطرابات في إيران.
خامساً، تأمين أمن الكيان الصهيوني الذي بات يعيش حالة قلق مستمرة من انتصارات أطراف حلف المقاومة وتنامي قواتها.. فاستمرار تواجد القوات الأميركية في العراق يضمن بقاء قوات الاحتلال الأميركي في شرق سورية وبالتالي يحول دون خروج البلدين من حالة الاستنزاف وتحقيق الأمن والاستقرار، والتفرّغ لإعادة البناء من جهة، ومواجهة الخطر «الإسرائيلي»، عبر تعزيز ودعم قوى المقاومة الفلسطينية من جهة ثانية.. الأمر الذي يجعل «إسرائيل» محاصرة ببيئة جديدة لقوى محور المقاومة لأول مرة في تاريخ الصراع العربي الصهيوني.. لهذا فإنّ واشنطن تسعى من خلال إبقاء قواتها لمنع حصول أيّ تبدّل في موازين القوى لمصلحة محور المقاومة، وبالتالي الحيلولة دون أيّ تبدّل يهدّد أمن واستقرار الكيان «الإسرائيلي» الذي يشكل أهمّ مرتكز للنفوذ الاستعماري الأميركي في المنطقة…
لكن هل تنجح واشنطن في ما تصبو إليه؟
الواضح أنّ القوات الأميركية التي ستبقى تحت غطاء مستشارين، لن تستطيع خداع المقاومة العراقية، وإقناعها بوقف عملياتها، بل انّ أطراف المقاومة سارعت، بعد إعلان الاتفاق، الى التأكيد بأنها ستواصل عملياتها ضدّ القوات الأميركية والقواعد التي تتواجد فيها، ولن توقف عملياتها حتى انسحاب كامل القوات الأجنبية، وفي الطليعة منها الأميركية، كما نص على ذلك قرار البرلمان العراقي… وهذا يعني انّ محاولة واشنطن الالتفاف على قرار البرلمان العراق، وتجنّب استمرار العمليات ضدّ قواتها، لن تنجح ولم تنطل على قوى المقاومة.. وما يسري على وضع القوات الأميركية في العراق سيسري عليها في سورية، ما يعني انّ القوات الأميركية ستواجه تصعيداً في عمليات المقاومة، ولن تنعم بالأمن والاستقرار وستكون عرضة لحرب استنزاف تزداد شدة طالما لم تقرّر واشنطن سحب كامل قواتها والتخلي عن أوهام بقائها من دون ان تدفع ثمن هذا البقاء.. فالمقاومة العراقية خاضت نضالاً طويلاً وقدّمت التضحيات الكبيرة للتحرّر من الاحتلال الأميركي واستعادة استقلال وسيادة العراق وتحرير ثرواته من نهب الشركات الأميركية، لن تفرط بهذه التضحيات وتسلم بعودة العراق إلى أحضان الهيمنة الأميركية.. كما تؤكد مواقف فصائل المقاومة.