شهرُ آب في المَسيحيّةِ له نَكهةٌ خاصّة. إنَّهُ شهرُ والِدَةِ الإلهِ بامتياز. نَبدأهُ بِصَومٍ يَنتهي في نِصفِهِ، أي يوم ١٥ آب الّذي هُوَ تَذكارُ رُقادِ وَالِدَةِ الإله. كما نُصلِّي مَساءَ هَذِه الفَترة صَلاةً ابتِهالِيَّةً تَضرُّعِيَّةً لِوالِدَةِ الإلهِ تُدعى الباراكليسي، وهِي كلمَةٌ يُونانيَّةٌ مُرَكَّبةٌ تَعني طَلبَ النَّجدةِ أو المُساعَدَة أو السُّؤال بإلحاح.
وإذا لاحَظنا، لَقد قُلنا "رُقادَ العَذراء"، ولم نَقل مَوتَ العَذراء. وذلك لأنَّ الرُّقادَ يَتبَعُهُ انتِقالٌ إلى الحَياةِ الأبَديَّة، وهذا ما تُخبِرُنا إيّاه أَيقُونَةُ عيدِ الرُّقادِ حَيثُ نرى رُوحَ العَذراءِ الطَّاهِرَة على شَكلِ طِفلَةٍ صَغيرة في يَدَي خالِقِها. وبِذَلِكَ تَقولُ مريمُ لنا: كُونوا مِثلَ مَريمَ تَخلُصُوا.
لنَفهَمَ المَقصودَ من هذا الكَلامِ، يَجبُ أن نتعرَّفَ على مريمَ العذراءِ أوَّلاً. مَن هيَ مَريمُ العذراء؟
مريمُ إنسانَةٌ كَسائِرِ البَشر. والداها "يُواكِيمُ وحَنَّةُ"، شَخصان تَقيَّان، رُزِقا بِها بَعدَ صَبرٍ وصَلاة، وأَدخلاها الهَيكلَ وهي في الثّالثة من عُمرِها، لِتَخرُجَ منهُ في سِنِّ البُلوغِ، وتُعهَدَ لِرَجُلٍ بارٍّ اسمُهُ يوسف.
في تَسلِيمِنا الشَّرقيّ نَقولُ إنَّ يُوسُفَ كانَ رَجلًا أرمَلَ طاعِنًا في السِّنّ، ولَدَيه أولاد. وقد جُعِلَت مريمُ في عُهدَتِه، بعدما وَقعَ الخَيارُ علَيه.
حَبِلَت مريمُ مِنَ الرُّوحِ القُدُسِ عندما بَشّرَها المَلاكُ جِبرائيلُ بِذلك، ووَلَدَتِ ابنَها الوَحيدَ الرَّبَّ يَسوعَ المَسيحَ، الّذي أخذَ مِنها طَبيعتَهُ البَشرِيَّةَ، وبَقِي إلهًا طَبعًا، لِذا نَقولُ هُوَ إلهٌ كامِلٌ وإنسانٌ كامِل.
إختارَها اللهُ لِتَواضُعِها ومَحبَّتِها، فَجذَبَته إليها لأنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتواضِعِين. وها نحن نَراها تتَرجِمُ مَحبَّتها وتَواضُعَها في خِدمَتِها لِنَسيبِتِها أليصَابات. وتُقابِلُها أليصابَاتُ بِصَرخةِ نُبوءَةٍ "فَمِنْ أَيْنَ لِي هذَا أَنْ تَأْتِيَ أُمُّ رَبِّي إِلَيَّ"؟(لوقا ١: ٤٣).
يا لَهذِهِ الرَّوعة في مَحبَّةِ الآخَر، أُمُّ المَلِكِ والمُخَلِّصِ أبَت أن تَجلِسَ على عَرشٍ لِتُخدَمَ بل ذَهَبَت لتَخدِم. ألم يَقُلِ الرَّبُّ لنا: "مَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ فِيكُمْ عَظِيمًا فَلْيَكُنْ لَكُمْ خَادِمًا" (متى ٢٦:٢٠). وقد قال لنا ذلِكَ بعدَ أن طَبَّقَهُ أوَّلًا بِنَفسِه: "كَمَا أَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ، وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ"(متى ٢٨:٢٠). وها مَريمُ تُجَسِّدُ هذهِ الآيَةَ، لأنَّ عَرشَها مثلُ مُخلِّصِها: "مَحبَّةُ الآخَر".
هذا دَرسٌ كبيرٌ تُعلِّمُنا إيّاهُ العَذراء.
لِنَنتَقِلْ مَعَها إلى الدَّرسِ الثّاني.
وَلَدَت مريمُ ابنَها الوَحيدَ في مِذوَدِ البَهائم. عَجيبٌ أمرُها، كيفَ لم تَتذَمَّر ولم تَقُلْ أنا المَلِكَةُ ولا يَجوزُ أن أضَعَ طِفلي في مَغارَةِ! قَبِلَت بِتَواضُعٍ كبيرٍ ما حَصَل معَها، وقَدَّمَت مَولُودَها الإلهيَّ لِكُلِّ البَشريَّةِ مُنذُ اللحظةِ الأُولى للوِلادَة، فاستَحَقّت أن تَكونَ بِذَلكَ أُمَّ البَشرِيَّةِ جَمعاء.
وهذا أيضًا ما تُظهِرُهُ أيقونَةُ ظُهورِ اللهِ في الجَسَد، أي أيقُونَة المِيلاد، حيث نَرى العذراءَ مَريمَ على شَكلِ حَبَّةِ قَمحٍ إلى جانِبِ يَسوعَ، وهوَ ليسَ بينَ ذِراعَيها، ووجهُها نَحونَا كأنَّها بِذَلِكَ تَقولُ: تَعالَوا أيُّها المُتعَبونَ، فقد وُلِدَ لكم المُخلِّص.
الدَّرسُ الثّالث.
أطاعت مريمُ خَطيبَها يُوسُفَ كأنَّها تُطيعُ الله، ولم تَقل مَن هُو هذا لأُطيعَهُ، مُعتَبِرةً نفسَها أعلى شأنًا منه، بل كانت تَنتَقِلُ معه مِن مَكانٍ إلى آخَرَ لامِسةً لَمسَ اليَدِ تَفانِيهِ وتَضحياتِهِ في سبيلِ مولودِها الإلهي وفي سبيلها.
الدَّرسُ الرَّابع.
وَقفت والِدَةُ الإلهِ صامِتةً في الهَيكلِ ومُصَلّيةً ومُصغِيةً لِكلامِ سِمعانَ الشَّيخِ، وهو يَحمِلُ ابنَها على ذراعَيه، ويُخبِرُها عن سيفٍ سَيَجوزُ في نَفسِها، ألا وهو الصَّليب. فظهَرَت هنا مُعَلِّمةً كبيرةً للصَّلاةِ القَلبيَّةِ إذ كانت "تَحْفَظُ جَمِيعَ هذَا الْكَلاَمِ مُتَفَكِّرَةً بِهِ فِي قَلْبِهَا." (لوقا ٢).
الدَّرسُ الخامِس.
كان يسوعُ "يَتَقَدَّمُ أمامها فِي الْحِكْمَةِ وَالْقَامَةِ وَالنِّعْمَةِ، عِنْدَ اللهِ وَالنَّاسِ"(لوقا .٥٢:٢). وهنا تُعلِّمُنا العذراءُ التَّربيةَ الصَّالِحةَ والمُثمِرةَ والحافِظةَ مِن كُلِّ سُوء، فما نفعُ الإنسانَ لو نالَ شهاداتِ العِلمِ كُلِّها، وغابَت عنهُ الأخلاقُ والمَحبَّةُ والرَّحمةُ والصِّدقُ والنَّزاهَة والإيمان؟
الدَّرسُ السَّادِس.
نقرأُ في إنجيلِ يُوحنّا عن عُرسٍ في قانا الجَليل، كان يسوعُ حاضِرًا فيه وكذلك مريمُ، فاقترَبت مريمُ مِنَ الرَّبِّ وأبلَغَته بِأنَّ الخَمرَ قد نَفَذ، قائلةً بِالحَرف: «لَيْسَ لَهُمْ خَمْرٌ». وتابَعَت مُباشَرةً قَولَها للخُدَّام: "مَهْمَا قَالَ (يسوع) لَكُمْ فَافْعَلُوهُ".
ومَعَ أنَّ يَسوعَ قالَ لها "مَا لِي وَلَكِ يَا امْرَأَةُ؟ لَمْ تَأْتِ سَاعَتِي بَعْد"، إلّا أنّه قامَ بِتحويلِ المَاءِ إلى خَمر. فَجوابُ يَسوعَ لها لم يَكُن عَدمَ احتِرامٍ، حاشا، بل قَصدَ بِأنَّهُ بمُجَرَّدِ اجتِراحِه الآيةَ ستظهَرُ ألوهِيَّتُه، وستبدأُ حينَها المؤامَراتُ ضِدَّهُ مِن قِبَلِ رُؤساءِ اليَهودِ، كأنَّ مريمَ بِذَلكَ تَستَبِقُ ساعَةَ صَلبِه.
والجَديرُ بِالتَّوقُّفِ عِندَهُ أنَّ طَلَبَ والِدَةِ الإلهِ هذا لم يَكُن لِنَفسِها، بل لاستِكمالِ فَرحِ العُرسِ، أي لخدمة الآخَرين. وهذا الأمرُ مِن شِيَمِ العذراءِ، فهي لم تَطلُبْ يَومًا ما لِنَفسِها، لأنَّها كانت مُكتَفِيةً بِالرَّبِّ وهُو الكُلُّ بِالكُل. حَبّذا لو نَحذو حَذوَها.
الدَّرسُ السّابع.
وُجودُ مريمَ في لَحظاتِ الصَّلبِ هُو قُوَّةٌ فائقةٌ. كانت تَنظُرُ بِعَينَيها أقصى عَذابَاتِ ابنِها، وفي الوَقتِ نفسِهِ تُدرِكُ يَقينًا بِما قَامَ بهِ مِن عَجائبَ وشِفاءَاتٍ وإقامَةٍ للمَوتى. وكَيفَ لها أيضًا أن تَنسى حَبلَها الإلهيَّ بِالرُّوحِ القُدُس؟.
كانت تَتألَّمُ بِكُلِّ ما للكَلِمَةِ مِن مَعنى، ولكِنَّها كانت أيضًا تُصَلِّي. إنَّهُ سرٌّ يَعجِزُ عن تَفسيرِهِ كُلُّ لِسانٍ بَشريّ. لم تَدعُ يسوعَ أن يُخلِّصَ نفسَهُ كما خَلَّصَ آخرِينَ، ولم تُناشِدْه أن يَكسِرَ الصَّليبَ الخَشبيَّ بِكَلِمةٍ مِنه، بل كانت في حالَةِ تَسليمٍ كُلّيّ، عارِفَةً أنَّ وُجودَ يَسوعَ على الصَّليبِ هو بِمَشيئَتِه، وكان قد أنبَأ عن صَلبِهِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ للتَّلامِيذ، ولا نَعرِفُ كم مَرَّةً ذكَرَ ذلكَ أمامها.
الدَّرسُ الثَّامن.
لم يَكُن موتُ ابنِها على الصَّليبِ نهايةً بِالنِّسبةِ لها، بل نرى العَذراءَ بينَ حامِلاتِ الطّيبِ مُسرِعَةً إلى القبر. ونحن نُرَتِّلُ في ليتورجِيّتِنا "إنَّ الملاكَ تَفوَّهَ نَحوَ المُنعَمِ عَليها (لِنلاحِظِ المُنعَمَ عليها)، أيَّتُها العَذراءُ النَّقيَّةُ افرَحِي، وأيضًا أَقولُ افرَحِي، لأنَّ ابنَكِ قد قامَ مِنَ القَبرِ في اليَومِ الثَّالِث". كما يَشرَحُ القِدِّيسُ غريغوريوسُ بالاماس، إنَّ والِدَةَ الإلَهِ قد عَرفَتِ القِيامَةَ قبلَ النِّسوةِ والتَّلامِيذ. وهنا نَتعلَّمُ مِن مَريمَ الشَّجاعةَ والثِّقةَ العَمياءَ بِالله.
الدَّرسُ التَّاسع.
يُطلِعُنا سِفرُ أعمالِ الرُّسُل بِحُضورِ والِدَةِ الإلهِ الدَّائِمِ معَ التَّلامِيذِ والجَماعَةِ المَسيحيَّةِ الأُولى: "كَانُوا يُواظِبُونَ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ عَلَى الصَّلاَةِ وَالطِّلْبَةِ، مَعَ النِّسَاءِ، وَمَرْيَمَ أُمِّ يَسُوعَ، وَمَعَ إِخْوَتِهِ"(أعمال ١٤:١).
يَقولُ المَزمور "هُوَذَا مَا أَحْسَنَ وَمَا أَجْمَلَ أَنْ يَسْكُنَ الإِخْوَةُ مَعًا"!(مزمور ١:١٣٣). لقد كانُوا بِقلبٍ واحِدٍ ولِهَدَفٍ واحِد. ألا اجتَمَعنا نَحنُ مِثلَهم ورَفَعنا الصَّلوات. كم يكون ذلكَ جَميلًا ومُفعَمًا بِالسَّلام. فهُنا الصَّلاةُ صلاةٌ، والقَلبُ قلبٌ، والإخوَةُ إخوَة.
وأَختُمُ بِالدَّرسِ العاشِر: كُلُّ مَن ينظُرُ إلى أيقونَاتِ والِدَةِ الإلهِ يَقرأُ في عينَي مريمَ الرِّسالةَ التَّالِية: ها هُوَذا إلهُكُم ومُخلِّصُكم الوَحيد، فلا تُضَيِّعُوا الطَّريقَ وتَجعلُوا عُمرَكُم يَذهَبُ سُدًى.
فإن قُلنا عنِ العَذراءِ بِأنَّها المُمَجَّدةُ والمُتَضَرِّعَةُ والمُرشِدةُ والحَنون، فَلأنَّ الرَّبَّ كانَ بَهجتَها، ولأنّ اللهَ "نَظَرَ إِلَى اتِّضَاعِ أَمَتِهِ"، كما قالت في نَشيدِها عن نفسِها(لوقا ٤٨:١)، وهي تدعُونا في كُلِّ لَحظَةٍ إلى التَّواضُعِ الكامِل إن أرَدنا حقًّا الارتقاءَ إلى السَّماوات. إلى الرَّب نَطلب.