من سخرية القدر ان يعاني الجيش اللبناني في عيده من مآسٍ عديدة تضربه من كل ميل وصوب. فهذه السنة -وهي من المرات القليلة في العقد الاخير من الزمن التي لا يتعرض فيها الجيش للاستهداف الامني والعسكري ويقدم شهداءه لضمان حماية المواطنين- ابتلى الجيش بمصاعب اقتصادية ومالية انعكست على وضعه المعيشي واللوجستي، حتى انه اضطر الى تأمين مواد غذائية من دول شقيقة وصديقة لكي يستمر في عطائه وتضحياته. بالامس، تلقى الجيش في عيده سيلاً من الكلمات والنصوص الرائعة التي من شأنها ان تدفع بشعراء العصور السابقة الى الانكفاء والتراجع حياء، لما تضمنته من تعابير ودروس، ودعوات لاحتضان الجيش والذود عنه والحفاظ عليه كي لا نفقد لبنان. لا احد ينكر على الجيش كل ما سبق وقيل فيه، لا بل نعتبره قليلاً اذا ما قورن بما قدمه، ولا يزال، من اجل لبنان واللبنانيين، ولكن، كان احبّ على المؤسسة العسكرية، وعلينا ايضاً، لو تم تخفيف الكلام المنمّق واستبداله بالافعال والتصرفات التي تجسد الكلمات الرنّانة. ألم يكن من الافضل لمن جلس يصفّ كلماته كـ"صفّ العسكر"، ان يجنّب الجيش وعناصره كافة التعرض للذلّ والقهر والقلق على مصير كل ضابط وجندي وعائلاتهم؟ ألم يكن من الافضل لمن يحرّض على الجيش في كل مناسبة، ان يدعو الى التأمل ملياً بمعاناة المنتسبين الى هذه المؤسسة العريقة، والشعور معهم كما مع اللبنانيين المقهورين، بفداحة العيش في القلق والخوف مما قد يحمله الغد من "مصائب" في الغذاء والدواء والامور المعيشية الاخرى؟.
ألم يكن من الافضل لمن تجاسر واعتدى على الجيش تحت ستار الغضب والنفور من الوضع الحالي للبنان، ان يقدّر ما يبذله الجيش من تضحيات والوفاء بالتزاماته العديدة ومهماته الكثيرة، كي يبقى شعور الامان والاستقرار عالياً لدى اللبنانيين، في وقت تتعاظم فيه قائمة الامور والمواضيع التي تفرض نفسها كضيف ثقيل على اللبنانيين؟.
ألم يكن من الافضل لو يتم النظر والتوافق على وجوب تخصيص مبالغ مالية اكبر للعسكريين، تؤمّن لهم الحد الادنى من العيش الكريم ولعائلاتهم ايضاً، بدل التلهّي بزيادات من هنا وهناك لا تقدّم، بل تؤخر كثيراً، في مرحلة تعافي لبنان من ازماته التي يتخبط فيها حالياً؟.
اما الذي يثير التعجب والاستغراب، فهو انه في مقابل "اللامبالاة" و"الاستهتار" لدى البعض في لبنان تجاه الجيش، يندفع الخارج الى القيام بكل ما يمكنه كي تستمر المؤسسة العسكرية في مهامها، ليس حباً بها بطبيعة الحال، انما في سبيل ان يبقى لبنان بعيداً عن الخضّات الامنية والفلتان الشامل الذي من شأنه ان يهدّد هويته وتاريخه، وحتى بقاءه. ولكن، لحسن الحظ ان مصالح الخارج تلتقي مع مصلحة الحفاظ على الجيش وعدم المساس به، وهو ما يطمئن بالفعل ان هناك من يحرص (ولو من خارج لبنان)، على تأمين حاجات الجيش الاساسية، واستبدال الاسلحة بالطعام، والذخائر بالتقديمات الصحية، حتى يستمر العسكريون في الوقوف وتلبية المهات الملقاة على عاتقهم، والتي تكبر يوماً بعد يوم.
يمكن القول ان الجيش ضُربَ من بيئته من خلال ما تم ذكره آنفاً من استهداف معنوي وجسدي لهذه المؤسسة التي تحمل لبنان على كتفيها، وهو ما تسلّم به الدول كافة التي تعمل على تعويض ما نقص من مقوّمات الصمود والاستمرار للجيش وعسكرييه، لكي لا تسلب الامل الوحيد الباقي والمتبقي لدى اللبنانيين بامكانية العودة الى الحياة السابقة مجدداً، حياة يسود فيها الفساد والهدر، انما بظروف سهلة من دون شك. مبروك للجيش في عيده، وشكراً لكل من دعم ويدعم، وساعد ويساعد، الجيش اللبناني، لانه حتماً يكون استثمر في انجح مؤسسة في لبنان.