منذ انطلاق انتفاضة 17 تشرين الأول 2019، وجد الجيش نفسه في موقع دقيق فرضَ عليه التصرف بكثير من التوازن المدروس، فهو يتبع من جهة الى السلطة السياسية ويأتمر بأوامرها وفق الهرمية الدستورية، ويشعر من جهة أخرى بالتعاطف مع الناس الناقمين على هذه السلطة التي يتهمونها بإفقارهم وإذلالهم.
حاول الجيش جاهداً خلال عام وعشرة أشهر من التحركات الميدانية المتنقلة ان يوفّق بين حدين: الأول، عدم الظهور بمظهر المتمرد على القرار السياسي، والثاني عدم الانسلاخ عن عمقه الشعبي الذي يشكل العسكريون جزءاً منه ومن همومه ربطاً ببيئاتهم الاجتماعية وواقعهم المعيشي.
ad
لم تكن المهمة سهلة، وفي بعض الأحيان لم يكن هناك رضى على الجيش سواء لدى جزء من السياسيين الذين يريدونه أداة قمع وظيفتها تأمين الحماية لهم ولمصالحهم، أو لدى شريحة من المواطنين تريده منحازاً بالكامل الى جانبها ورأس حربة في معركتها ضد الطبقة السياسية، بل ان بعض المتحمسين جاهَر بدعوة المؤسسة العسكرية الى انتزاع المبادرة والامساك بالحكم لمرحلة انتقالية.
وهكذا، أصبح الجيش موجوداً على خط التماس الفاصل بين سلطة متخبطة لا تجيد التصرف، ومواطنين غاضبين لا يعرفون احيانا كيف يقودون انفعالاتهم في الاتجاه الصحيح. والاخطر ان هناك من سعى الى ان يعوّض عن غياب المعالجات الجذرية للازمة التي يواجهها لبنان بالهروب الى الامام عبر وصفات أمنية من شأنها ان تحاكي نتائج الازمة لا أسبابها.
والى حين يتحسّس المعنيون بمسؤولياتهم ويخففون الاعباء عن المؤسسة العسكرية عبر شبكة امان سياسية، انطلق الجيش في تعامله مع تحديات الأرض من القاعدة الآتية:
نعم لحرية التظاهر والاعتصام السلميين حتى أبعد الحدود، ولا لقطع الطرقات وأعمال الشغب التي تستهدف الأملاك العامة والخاصة.
ad
لم يكن تطبيق هذه القاعدة امرا يسيرا على الدوام، وسط الظروف المعقدة السائدة على الارض، وكاد الاستثناء المتكرر في بعض الاوقات ان يتسبب بمشكلات وخيمة، خصوصا في ما يتعلق بتداعيات إقفال عدد من الطرق الحيوية.
استخدم الجيش في مواجهة حساسيات الشارع سياسة العصا والجزرة، فكان يقسو تارة ويلين طورا، تبعاً للمقتضيات الميدانية، محاولاً الفرز بين المحتجين الحضاريين والموتورين المندسين، والذين غالباً ما يكونون مكلفين بتنفيذ أجندات سياسية.
حدد الجيش جرعات تدخله وفق ما يرتأيه مناسباً، مازجاً الحكمة بالحزم كما يؤكد القريبون من اليرزة، علماً ان جانباً من السلطة كان يأخذ عليه بأنه يتساهل زيادة عن اللزوم مع المحتجين والمتظاهرين، بل ان هناك مَن ذهب إلى اتهامه بالتواطؤ مع الحراك على حساب واجبه في ضبط الامن.
يرفض الجيش نظريات المؤامرة التي يستخدمها البعض في معرض مقاربة دوره. بالنسبة اليه، ما يحرّكه حصراً هو هاجس المحافظة على الاستقرار الداخلي ومؤسسات الدولة، وحق الناس في التظاهر السلمي ورفع الصوت احتجاجاً على ما آلت اليه أوضاعهم، تاركاً لنفسه هامش الاجتهاد في اعتماد الوسائل المناسبة لتسييل هذه «التوليفة» عملياً.
ad
وأصعب ما في التحدي الذي يواجه الجيش حالياً، هو انّ الازمة التي يحاول احتواء تداعياتها الميدانية انما أصابته أيضا، بدءا من الانخفاض الكبير في القيمة الشرائية لرواتب ضباطه وعناصره نتيجة ارتفاع سعر الدولار وصولا الى النقص في احتياجاته اللوجستية الضرورية، ما استدعى تدخلا من بعض الدول لدعمه على عجل خشية انهياره الذي سيسبب فوضى واسعة قد تلفح رياحها الحارة مصالح الخارج.
ولعل اكثر ما يعكس حراجة الوضع الذي يمر فيه الجيش هو الكلام العالي النبرة للعماد جوزف عون قبل فترة خلال لقاء مع كبار الضباط، والذي انطوى على رسائل حادة غير مسبوقة في اتجاه السلطة، لِحضّها على تشكيل حكومة ولجم الانهيار قبل فوات الأوان.
صحيح ان الجيش يتموضع دستوريا تحت سقف السلطة السياسية، لكن الواضح انه يسعى الى الاستفادة من كل فرصة ممكنة للضغط عليها من أجل تعديل سلوكها.