تبدو المفارقة كبيرة بين طريقة مواجهة سورية للحصار الاقتصادي الأميركي الغربي، برفض الخضوع له والعمل على مقاومته برسم سياسات تحبط أهدافه، وبين طريقة لبنان الذي أبى إلا أن يخضع للحصار والضغوط الأميركية، ويرفض مواجهتها ومقاومتها…
واذا ما دققنا في العوامل التي تجعل سورية تحوّل الحصار إلى فرصة للنهوض وبناء اقتصاد إنتاجي والاعتماد على الذات بتحقيق الاكتفاء الذاتي والتعاون مع الدول التي ترفض السياسات الاستعمارية وتحترم سيادة سورية واستقلالها وتمدّ يد المساعدة لها لمواجهة أزماتها التي تسبّبت بها الحرب الإرهابية الكونية بقيادة أميركا… وبين لبنان الذي يرفض تحويل الحصار إلى فرصة مماثلة لما تقوم به سورية، ويقبل الخضوع للحصار الأميركي الغربي لأنّ بعض أطراف الطبقة السياسية يخافون لا بل يعيشون حالة رهاب من الإقدام على كسر الحصار وقبول فرص ثمينة للنهوض باقتصاد لبنان وحلّ أزماته المزمنة، خوفاً من أن يتعرّضوا لما يسمّى العقوبات الأميركية…!
إذا ما دققنا في العوامل التي تجعل سورية تحوّل الحصار إلى فرصة، ولبنان يخسر هذه الفرصة ويسلّم بالخضوع لهذا الحصار الأميركي.. يمكن تسجيل العوامل التالية:
أولاً، في سورية رئيس دولة واحد منتخب مباشرة من الشعب، يملك صلاحيات اتخاذ القرار ورسم سياسات البلاد الداخلية والخارجية، ولهذا أعلن الرئيس بشار الأسد بالأمس القريب في خطاب القسم، اثر انتخابه للمرة الرابعة رئيساً لسورية، أعلن انّ «الحصار الاقتصادي المفروض على سورية هو الفرصة الأكبر للتطوير بالاعتماد على القدرات الذاتية»…
أما في لبنان فليس هناك رئيس دولة متنخب مباشرة من الشعب يملك الصلاحيات واتخاذ القرارات في تحديد سياسات لبنان الداخلية والخارجية، ولهذا لم يتمكن مثلاً الرئيس ميشال عون من تحقيق حتى ما سعى إليه من وراء وصوله إلى سدة الرئاسة ومعه أكبر كتلة نيابية في البرلمان، تمثل تياره الوطني الحر، وتحالفه مع حزبه الله، الذي يملك تأييداً واسعاً على المستوى الوطني يتجاوز تمثيله الطائفي في البرلمان، لم يتمكّن من تحقيق وترجمة شعاره الإصلاح والتغيير…
ثانياً، في سورية دولة وطنية مركزية تمثل الشعب، تتعامل مع المواطنين بالتساوي، دون تمييز، وهذه الدولة بمؤسّساتها التنفيذية تطبق السياسات العامة التي يرسمها رئيس الجمهورية، ويجري مراقبة عملها من قبل البرلمان المنتخب من الشعب بعيدا عن أيّ تمثيل طائفي او مذهبي…
بينما في لبنان لا وجود لدولة وطنية تتعامل مع مواطنيها بالتساوي، بل دولة تقوم مؤسساتها التنفيذية على التوزيع الطائفي والمذهبي، والحكومة التي تنحصر فيها السلطة التنفيذية، ورسم سياسات البلاد الداخلية والخارجية، تتمثل فيها الطوائف، حسب وزنها وحجمها في البرلمان المنتخب وفق نظام التمثيل الطائفي، ما يجعل الاتفاق على اتخاذ القرار إزاء أيّ قضية صغيرة أم كبيرة صعب ويحتاج إلى توافق.. الأمر الذي أدى ويؤدي إلى تعطيل تنفيذ أيّ خطط او مشاريع، لحلّ الأزمات، وهو ما تجسّد مثلاً في العجز عن بناء محطات الكهرباء رغم مرور نحو ثلاثة عقود على انتهاء الحرب الأهلية.. مما استنزف الدولة ورتب ديوناً كبيرة، كما استنزف المواطنين…
ثالثاً، في سورية دولة وطنية مستقلة سياسياً واقتصادياً، غير تابعة للأنظمة الرأسمالية الغربية الاستعمارية، وتتعامل مع الدول الحليفة لها من موقع الاحترام المتبادل والتعاون المشترك بما يخدم مصالح الجميع… لهذا فهي دولة تأخذ قراراتها باستقلالية وفق ما تقتضيه مصالحها…
أما في لبنان، فإنّ الدولة غير وطنية، وإنما هي طائفية، وغير مستقلة لا سياسياً ولا اقتصادياً، فهي ترتبط منذ نشأة لبنان الكبير بوشائج التبعية الاقتصادية والسياسية للدول الاستعمارية الغربية، ولهذا لا تملك حرية اتخاذ قراراتها باستقلالية.. وهذا ما ظهر مؤخراً بشكل صارخ، عندما عرضت على لبنان، دول مثل إيران والصين وروسيا، إقامة مشاريع لحلّ أزماته المتعددة وفق نظام BOT ومن دون ايّ شروط سياسية، تمسّ بسيادة واستقلال لبنان، لم تتجرأ الحكومة على قبول هذه العروض المغرية، التي تتضمّن أيضاً تزويد لبنان حاجاته من المشتقات النفطية وتقاضي ثمنها بالليرة اللبنانية…
لهذا فإنّ سورية رغم أنها لا تزال تعاني من آثار ونتائج الحرب الإرهابية الكونية المدمّرة، وتستمرّ في مواجهة جيوش الاحتلال وعصابات الإرهاب على أجزاء من أرضها في الشمال والشرق، وتتعرّض ثروتها النفطية للسرقة من قبل قوات الاحتلال الأميركية وكذلك تتعّرض ثرواتها الزراعية الهامة في الجزيرة للنهب من قبل قوات قسد التابعة للمحتل الأميركي.. رغم كل ذلك فإنّ الدولة السورية تنفذ الخطط الاقتصادية التي تنهض بالاقتصاد وتعيد الحياة للصناعة والزراعة وتقدم الدعم الضروري لهما، وتؤمّن الخدمات الأساسية للمواطنين، وتواصل تقديم الضمانات والتقديمات الاجتماعية لهامة الشعب، من صحة وتعليم ونقل عام، وأمن غذائي إلخ…
في حين أنّ الدولة في لبنان، رغم أنها لا تعاني حالياً من ايّ حروب، بفضل طبعاً وجود المقاومة وسلاحها الرادع للعدو الصهيوني، إلا أنها باتت عاجزة عن تأمين الخدمات الأساسية للمواطنين من كهرباء ومشتقات نفطية ودواء واستشفاء، كما هي عاجزة عن تأمين الأمن الغذائي.. فيما الاقتصاد ينهار والمعامل والمؤسسات تقفل أبوابها لعدم قدرتها على الاستمرار.. أما العملة الوطنية فإنها تنهار ويتلاعب المضاربون بسعرها مقابل الدولار وتنهار القدرة الشرائية للمواطنين من دون أن يجدوا ايّ حماية لهم من الدولة او تعويض عن تراجع هذه القدرة.. على عكس ما حصل ويحصل في سورية حيث عملت الدولة على ضبط سوق صرف العملة ووضع حدّ للتلاعب في سعرها مقابل الدولار، وتعويض الموطفين والعمال عن تراجع قيمة العملة بزيادة الرواتب، حتى ولو لم تكن بمستوى تدني القدرة الشرائية. لكن الدولة لم تتخلّ في المقابل عن مواصلة تقديماتها الاجتماعية وحفظ الأمن الغذائي مما مكن الناس َمن الصمود على مدى سنوات الحرب الإرهابية المدمّرة…
هذه هي العوامل، التي تعكس سلبيات غياب الدولة الوطنية المستقلة في لبنان، وايجابيات وجود هذه الدولة في سورية.. ولهذا طالما انّ لبنان يعتمد في تكوينه وإعادة إنتاج مؤسسات نظامه السياسي على التقاسم الطائفي والمذاهبي فإنه لن ينعم بالاستقرار ولا ببناء دولة وطنية مستقلة تحقق التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية، وبالتالي سيبقى عرضة للتدخلات الأجنبية في شؤونه الداخلية، وخاضعاً للتبعية والوصاية الخارجية التي تتغذى أصلاً من تبعية النظام الاقتصادي اللبناني للنظام الرأسمالي الغربي.. وإذا كان هذا النظام قد تعرّض للاهتزاز والاختراق والتهديد، فسبب تنامي قوة المقاومة التي ألحقت الهزيمة بجيش الاحتلال الصهيوني مرات عدة، وفرضت معادلات الردع في مواجهة اعتداءاته وأطماعه في لبنان، وتحوّل حزبها حزب الله إلى قوة مؤثرة في المعادلة الداخلية، الأمر الذي دفع الدول الغربية الاستعمارية بقيادة أميركا إلى استشعار الخطر على نفوذها في لبنان واستقرار النظام اللبناني التابع لها، وكذلك استشعارها الخطر على أمن ووجود الكيان الصهيوني. ولهذا عمدت هذه الدول الاستعمارية إلى شنّ الحرب الاقتصادية على لبنان وركوب موجة الاحتجاجات الشعبية، في محاولة لتنفيذ انقلاب سياسي لمصلحة سياساتها الاستعمارية بهدف إضعاف المقاومة وحلفائها، وإعادة تعويم وتعزيز قوة الأطراف التابعة لها وتمكينها من استعادة هيمنتها على السلطتين التشريعية والتنفيذيّة وبالتالي منع حصول ايّ تحوّل في سياسات النظام اللبناني بعيداً عن التبعية للغرب، وهو ما عكس مقاومة هذا الغرب والقوى التابعة له لأيّ توجه للحكومة اللبنانية نحو الشرق لحلّ أزمات لبنان المالية والاقتصادية والخدماتية، والإصرار على سلوك لبنان طريقاً وحيداً لذلك وهو طريق الارتهان لمساعدات صندوق النقد الدولي سلاح أميركا والغرب لفرض الهيمنة على الدول…