لا تزال الدبلوماسية الفرنسية تأمل بولادة الحكومة رغم المؤشرات غير المشجعة التي بدأت تظهر. حتى الآن لم تلامس المشاورات المباشرة بين رئيس الجمهورية العماد ميشال عون والرئيس المكلّف تشكيل الحكومة نجيب ميقاتي المنطقة المحظورة. والمقصود هنا الحقائب السيادية، وتحديداً حقيبة الداخلية ومن سيتولّى التسمية.
لكن الرسائل المبطنة التي يجري تبادلها من خلال مقرّبين، لا تبعث على الارتياح. فالرئيس عون يبدي تمسكّه النهائي بالاستحواذ على حقيبة الداخلية؛ فيما الرئيس ميقاتي، والذي يتكئ على الخطوط الحمر التي رسمها له نادي رؤساء الحكومة السابقين، لن يذهب في هذا الإتجاه مهما حصل. وقد يكون الحدّ الأقصى القادر على سلوكه، إيلاء حقيبة الداخلية لشخصية محايدة. وبالتالي، فإنّ الاندفاعة الفرنسية تتحضّر لصدمة لبنانية جديدة. ورغم الخطوة الفرنسية، والتي جاءت بثوب اوروبي هذه المرة، عبر اعلان اطار وشروط العقوبات التي سيجري تطبيقها على مسؤولين لبنانيين، الّا انّها لم تعط أثراً مفيداً على المشاورات الحكومية. والبعض رّد ذلك الى انّ اي لائحة اسمية لن تكون جاهزة قبل نهاية شهر أيلول المقبل. هذا عدا انّها ستكون بحاجة الى إجماع اوروبي.
وبالتالي، قد يكون لزاماً على فرنسا التفكير بخطوة اشدّ تأثيراً واسرع زمنياً، وإلّا فإنّ الحائط المسدود سيعاود الظهور قريباً.
في الواقع لا بدّ من قراءة المشهد منذ 17 تشرين 2019 تاريخ انطلاق الاحتجاجات الشعبية ضدّ الطبقة السياسية الحاكمة، في سابقة لم يشهدها تاريخ لبنان قبلاً.
ومنذ ذلك التاريخ، ظهر رفض شعبي لكامل الطبقة السياسية ولو بنسب متفاوتة. فالساحة المسيحية كانت الاكثر تأثراً وتلتها الساحة السنّية ثم الدرزية واخيراً الساحة الشيعية.
يومها أظهرت الاستطلاعات التي حصلت تراجعاً كبيراً في صفوف الأحزاب، ووصلت نسبة المطالبين بإنتاج وجوه جديدة الى حوالى 65%، وقد ثبت ذلك في الانتخابات الطلابية في الجامعات، ولا سيما الجامعة اليسوعية، والتي تمثل شريحة الشباب، وايضاً في الانتخابات النقابية، ولا سيما نقابة المهندسين، والتي تمثل الفئة النخبوية في المجتمع.
وبخلاف التحضيرات للانتخابات النيابية الماضية، فلقد بردت الهمّة باتجاه الاغتراب ايضاً، بعدما ظهرت نسبة مرتفعة لرافضي احزاب الطبقة السياسية الحالية.
واستطراداً، اصبحت وزارة الداخلية مسألة حياة او موت، خصوصاً للتأثير في الانتخابات النيابية المقبلة، بعدما تبين لهذه القوى وجود قرار دولي حازم بوجوب إجراء الانتخابات. فنغمة تأجيل الانتخابات، والتي تصاعدت خلال الشتاء الماضي، سرعان ما تراجعت بعد ظهور مواقف دولية حازمة، لا سيما من الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا حيال وجوب إجراء الانتخابات النيابية والاستعداد لإرسال مراقبين. وليس سراً، انّ القوى الحزبية خصوصاً على الساحة المسيحية، أجرت استطلاعاتها الخاصة، والتي أظهرت لها نتائج مقلقة. حتى «حزب الله»، وهو المعني أيضاً بوضع حليفه على الساحة المسيحية، فهو اجرى أيضاً استطلاعه والذي جاءت نتائجه مشابهة.
وفي الانتخابات النيابية الماضية حُكي كثيراً عن تدخّلات وتزوير رافق العديد من الاقلام في العديد من الدوائر. فلقد حُكي عن تنخيب اموات وعن رفع أعداد المقترعين، ولا مجال لتعدادها الآن.
ليس بالضرورة ان تتجدّد هذه التدخّلات في العملية الانتخابية المقبلة، الّا انّ الإشارة الى ذلك تعطي فكرة واضحة عن أهمية وزير الداخلية في إدارة العملية الانتخابية. وللمفارقة، انّ الصراع على حقيبة الداخلية ينحصر بين طرفين مسيحي وسنّي، وهما الاكثر تضرّراً من تبدّل المزاج الشعبي لما بعد 17 تشرين، فيما الدروز اقل قلقاً وكذلك الساحة الشيعية، حيث قيل انّ الثنائي الشيعي رفض فكرة جرى تداولها على نطاق ضيق بأن يتولّى اللواء عباس ابراهيم وزارة الداخلية، وفضّل التمسّك بوزارة المال.
المهم أنّ النزاع حول وزارة الداخلية للإمساك بها قد لا يتأخّر بالظهور خصوصاً وانّه بدأ التحضير لذلك.
وبالتالي، لن تكفي باريس نتائج المؤتمر الذي سيُعقد في الرابع من آب، والذي أشارت آخر المعلومات الى انّه سيصل إلى مساعدة لبنان بمبلغ 357 مليون دولار اميركي. والاهم المشاركة الشخصية للرئيس الأميركي، مع إحتمال مشاركة السعودية، وفق ما أوحى به الرئيس ميقاتي.
ربما على باريس ابتكار طريقة تدخّل أفعل، لأنّ الحرب الدائرة حول حقيبة الداخلية هي بمثابة حرب حياة او موت اياً تكن كلفتها.
فالسؤال الاهم، ماذا قد يحصل في حال اعلن الرئيس ميقاتي اعتذاره عن مهمة تشكيل الحكومة؟
الأرجح انّ بعض الأطراف وضع سيناريو لمرحلة ما بعد الاعتذار الثالث، وهو يتحضّر له.
لا شك انّ الحملات السياسية ستشتد بين «التيار الوطني الحر» ونادي رؤساء الحكومة السابقين، مع ارتفاع سعر صرف الدولار واشتداد الانهيار الاقتصادي والأزمة المعيشية. وهو ما يعني توسّع رقعة الفوضى، وسعي البعض الى فتح الابواب امام نقاش حول ازمة النظام لا ازمة تشكيل الحكومة. هذا من دون إغفال انّ المسيحيين خسروا العديد من نقاط قوتهم خلال المرحلة الماضية.
فعدا النزف المتزايد باتجاه ترك البلد والهجرة، فإنّ القطاعات التي كانت تشكّل مساحة حضور قوي لهم، تداعت واصبحت في وضع صعب، كمثل قطاع التجارة بكل فئاته وقطاع المصارف والشركات المالية وقطاع المستشفيات والطبابة والقطاع التربوي الخ...
وهذا الواقع الخطير له تداعياته المستقبلية الخطيرة على الحضور المسيحي، الذي يعاني اصلاً، والذي تلقّى ضربات سياسية كبيرة في العام 1989 ومن ثم في حقبة الوصاية السورية في لبنان.