علمنا التاريخ أن التمسك بالمبادئ والقيم وبالهوية الوطنية وباستقلالية القرار السيادي النابع من المصلحة الوطنية العليا والحفاظ على حقوق الشعب هي مسلمات ومفاهيم ثابتة لا تبدلها ظروف أمنية أو سياسية أو اقتصادية مهما كانت قاسية ولا تتغير بفعل التحديات والضغوط ومحاولات الدول الغربية الهادفة لقلب المفاهيم الوطنية لتتطابق ومصالح تلك الدول.
إن حرية الوطن تكمن في ضمان امتلاك القدرة على اتخاذ القرارات المصيرية الجريئة سياسية وعسكرية واقتصادية وهذه القرارات تحتاج إلى وجود قيادة وإدارة سياسية تمتلك رؤية واضحة واستثنائية لا تخضع لأي ضغط خارجي يشعر معها المواطن بأنه يعيش بكنف دولة مسؤولة وقادرة على اجتراح الحلول اللازمة لتأمين سبل عيشه الكريم مهما اشتدت المحن.
أخطر ما يهدد وحدة المجتمع هو شعور المواطن بأنه أضحى بلا مظلة الدولة المسؤولة عن حمايته وبأنّه صار مواطناً متروكاً لمصيره عاجزاً عن تأمين أبسط حقوقه الإنسانية واحتياجاته الحياتية، حينها تلفظ الأخلاق أنفاسها وتهاجر القيم والمبادئ الوطنية ويغرب الضمير وتختفي الإنسانية ويستشري الفساد في مفاصل الدولة فتسود شريعة الغاب، حينها نترحم على الانتماء الوطني.
في بلادنا العربية المناوئة للسياسات الأميركية والغربية يعيش المواطن فيها أوضاعاً اقتصادية صعبة بلغت مرحلة خطرة من عدم القدرة على الصمود في ظل العقوبات الاقتصادية الجائرة المفروضة من الإدارة الأميركية والغربية، واتباعهم سياسة التجويع والتركيع بحق شعبنا بهدف ضرب مبدأ الثقة وتأليب البيئة الاجتماعية على مكونات الدولة لغسل العقيدة والانتماء الوطني وصولاً إلى كيّ الوعي عند الأجيال.
أنين المواطن صار صراخاً عالياً والشكوى صارت عارمة مع ازدياد الضغوط وهبوط سعر العملة المحلية وشح في المواد الأساسية والدوائية والاستشفائية وندرة في الكهرباء، عصب الحياة، إضافة إلى احتكار تجار الحرب ومافيا الفساد لمعظم السلع من دون حسيب أو رقيب بهدف تحقيق المكاسب المادية على حساب المواطن فأضحت قدراته على الصمود محدودة إن لم نقل إنها تبخرت.
إلقاء اللائمة على العقوبات الأميركية الغربية بأنها المسبب الأساس لمعاناة الشعب أمر فيه مبالغة وخصوصاً أننا نعيش في بلاد غنية بالموارد والثروات الذاتية، بيد أن المفسدين المتحكمين في مفاصل الدولة هم أصل البلاء ومكمن العلة لأن تأثير فسادهم على المجتمع هو أكبر وأخطر من العقوبات المفروضة علينا بحد ذاتها.
نقولها وبكل صراحة إن المستعمر الجديد لبلادنا العربية هو الفساد المستورد وبأساليب عدة لأن استشراء الفساد أسفر عن تغيير في نمط وعينا وحياتنا وتفكيرنا وقناعاتنا، وتعديل في أولوياتنا بعدما نجح المستعمر الجديد في كي الوعي لدرجة الإلغاء شبه الكامل فأصيب المجتمع بحالة اللاوعي وأصبح فاقداً للأمل بالمستقبل وبلا قيمة بين شعوب العالم.
إن سياسة التجويع المتعمدة وحالة الفقر والعوز التي أصابت شعبنا كانت نتاج تسويق ممارسة الفساد الذي زرعه المستعمر الغربي في داخلنا كأداة نافذة لإلغاء الفكر ولتعطيل المفاهيم ولإلغاء أي تخطيط إستراتيجي يضمن تطور الإنسان ولإبقائنا في خانة التخلف.
حين تجتمع القضية الوطنية مع المشكلة الحياتية فإن المشكلة تطغى على القضية فالجوع كافر والعوز قاهر، فلو خيّرنا أباً أو أماً لأسرة أصابها الجوع والعوز بين القضية الوطنية وبين مشكلة إطعام أسرته، فالمؤكد بأن البحث عن حل للمشكلة سيتقدم على القضية وسوف يحتل الأولوية في تفكير رب الأسرة التي أصابها الجوع والعوز، حينها يصاب الالتزام الوطني بالتراجع والتحلل من أي انتماء.
بين الفساد وكيّ الوعي شريان يغذي غسل الأدمغة ويؤدي إلى تغيير المبادئ والقناعات، لأن الفساد هو المشرّع الرئيس للاستعمار الجديد لبلادنا وهو مفتاح التحكم بقوت شعبنا وبمقدرات بلادنا والقبض على قرارنا السيادي.
إن المؤامرة الأميركية الغربية المتوحشة قائمة على نشر الفساد لا تعترف بالإنسانية بمكان وهي لا تستهدف بلداً عربياً بمفرده بقدر ما تستهدف عالمنا وشعبنا العربي بمجمله لمنعه من الوصول إلى مصاف التقدم العلمي والازدهار الاقتصادي ولإبقاء قرارنا الوطني ومقدراتنا مرتهنة لمصلحة المستعمر الجائر.
إن اجتثاث آفة الفساد هو الجهاد المقدس فالجهاد في سبيل مكافحة فساد الداخل لا يقل قدسية عن محاربة الإرهاب والمحتل لأرضنا، لأن تطهير المقدرات الوطنية وتنظيف مفاصل الدولة من الفساد والتخطيط لتأمين مقومات الحياة الضرورية لشعبنا يعتبر أولوية وطنية وذلك لضمان استمرار مقومات الصمود.
إن قطع شريان الفساد الموصول بين الغرب المتآمر وعملاء الداخل يمنحنا الاستقلال الحقيقي الذي نستحق ويعطي أجيالنا فرصة التمسك بالمبادئ والقيم الوطنية المثقلة بالعلم والمعرفة والتقدم لتفتح لنا آفاقاً جديدة من التطور الذاتي، وحينها فقط نحوز على مرتبة الاحترام بين شعوب العالم.