نظرة متجردة وموضوعية على ما نعيشه اليوم من تدهورٍ على مختلف الأصعدة الماليَّة والاقتصادية، لا يمكن إلا وان تستفزنا لإعادة النظر بكل ما تسبّبنا به جميعًا من دمارٍ لكل مقومات الوطن، وأقول تسبّبنا لأن من ساهم منّا ولو بالسكوت واللامبالاة أمام ما كان يحصل، لا بد وأن يتحمّل جزءًا من المسؤولية على قدر سكوته ولامبالاته.
فمنذ العام ١٩٩١ يوم كان يتوجب على المسؤولين اللجوء الى القطاع الخاص لخصخصة القطاع العام، كان علينا جميعًا الدفع بهذا الاتجاه على قدر تأثيره في واقع الحال، كان علينا الدفع باتجاه انجاز المشاريع الكبرى وفتح الطرقات الجديدة وإنجاز البنى التحتيَّة، وبعض هذا قد حصل بالفعل لكن كان يقتضي من المعنيين اتمام ذلك دون اللجوء الى الاستدانة، حيث أغلب الدول المتحضِّرة تقوم ببناء مطاراتها ومرافئها وطرقاتها وسدودها و… عبر شركات تقوم بإنجازها واستثمارها لعشر سنوات أو أكثر قبل أن تعيدها إلى الدولة. ولكن وللأسف، وبالرغم من مرور حكومات محسوبة على جميع الفئات السياسيَّة لم تسلك إحداها هذا المسلك وعن سابق تصور وتصميم، وذلك للمحافظة على حصصها ولحماية فساد اتباعها.
كثيرون في لبنان وخارجه يتساءلون لماذا الإصرار على إبقاء مؤسسة فاشلة منذ أربعين سنة وأكثر تتسبّب بخسائر جمّة دون البحث عن بدائل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه أو بالحد الأدنى للجم تفاقم الخسائر سنة بعد سنة.
لماذا لا يتم خصخصة هكذا مؤسسات، وأوضح هنا بسؤال أول حول مؤسسة كهرباء لبنان، وهي منذ الثمانينات لم تعطِ المواطن اللبناني كهرباء بمعدل ٢٤/٧، لكنها استنفذت أكثر من أربعين مليار دولار أميركي من ميزانية الدولة، فلماذا لا يتم تخصيصها؟.
واستطرادًا لماذا لا تتم خصخصة النفايات التي تدّر الملايين على ميزانيات الدول الأخرى، بينما نصرف نحن من ميزانياتنا عليها المليارات... وحتى مرافق الدولة كالمطار والمرفأ (هل يجوز مرفأ من أكبر المرافئ في المتوسط أن يحقّق للدولة خمسين مليون دولار فقط)...
كل هذا دون التطرّق والتوسع بمزاريب الهدر المتمثلة بالكثير الكثير من الصناديق والمجالس والجمعيات التي يجب إغلاقها.
لا ننكر بأنه ومنذ العام ١٩٩٤ وحتى سنة ٢٠٠٥ تاريخ استشهاد رئيس رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري كانت حركة العمران قياسيَّة، مقارنة بخمس عشرة سنة من الحروب المدمِّرة التي أخذت منّا كل شيء، ومن المتعارف عليه بالمعادلات البسيطة إن البناء الذي يستغرق منك سنة كاملة لإنجازه، لا تحتاج عملية هدمه لأكثر من ساعات.
إن بلادنا كانت عرضة للهدم لأكثر من ١٥ سنة، وتم إعادة اعمار الجزء الأكبر منها خلال تسع سنوات، لكن منذ العام ٢٠٠٥ توقفت مشاريع البناء الفعلية لهذه الدولة، دون ان تتوقف مشاريع تحميل لبنان الديون، التي لا نعلم كيف تكاثرت من عهدٍ إلى عهد حتى اليوم.
وسط هذه النظرة السوداوية نقول: ما زال الأمل موجودا لإيقاف النزف والنهوض من جديد، لكن ذلك بحاجة للإرادة والإدارة ولاتخاذ قرارات مصيرية ومنها:
١-تخصيص جميع القطاعات الفاشلة وغير المربحة، فذلك سيقضي على نزيف ما يعادل ٦٥٪ من الموازنة العامة.
٢-الاتفاق مع الدول المانحة وصندوق النقد الدولي والدول الصديقة.
٣-رفع الحد الأدنى للأجور الى خمسة ملايين ليرة.
٤-تسديد الدين الداخلي عبر الليرة اللبنانية والدولار.
٥-تثبيت الدولار على آخر تسعيرة منطقية لا سياسية للسوق السوداء ومن ثمَّ شطب الأصفار، تكريسًا لليرة موازية لسعر السوق حسب قيمتها الشرائية الفعليّة.
٦-اتجاه لشطب جزء من الديون.
٧-رفع الدعم وإصدار بطاقة دعم للعائلات الفقيرة مموّلة من الاتحاد الأوروبي لمدة ثلاث سنوات.
٨-دفع سندات الدين بالعملة الأجنبية لتستفيد منها البنوك اللبنانية، شرط تسهيل سحوبات المودعين اللبنانيين.
٩-تفعيل مؤسسات الدولة الرقابيّة لمكافحة الفساد والهدر على أنواعه.
التسع نقاط هذه هي إجراءات أوليّة تساعد بعضها البعض لضبط الاقتصاد وتثبيت العملة الوطنية وتحسّن الدورة الاقتصادية، ولكن يتوجّب طرحها كاستفتاء على الشعب وليس فرضها، لأن تلك الخطة تحتاج أولًا للدعم الشعبي.
بعد انجاز الخطة يتوجب اتخاذ خطوات أخرى تحفظ الصناعة الوطنية، والتركيز على اقتصاد مميّز يرتكز على الصناعات الفكرية، كصناعة البرامج والتطبيقات على الهواتف والحواسب، الشركات المالية، المحفظات الالكترونية، العملات الرقمية، الصناعة الطبية، والسياحة على جميع انواعها…
واخيرًا المحاسبة وإصدار الأحكام عما سبق وسُرق، مع وجوب الإصلاح قبل المحاسبة كي لا نضع العربة أمام الحصان.
أكرّر ختامًا، الأمل ما زال موجودًا ولكن الإرادة والإدارة مفقودتان فهل نسعى لإستعادتهما سعيًا وراء الخروج من النفق المظلم الذي يحاصروننا داخله؟.