لم يتردّد رئيس الحكومة المكلّف نجيب ميقاتي في تسريع خطاه على طريق بعبدا، لإستيلاد حكومة لبنانية من دون تأخير إضافي مُكلِف. لذا، ساد الإعتقاد الشعبي حينها أن الولادة الحكومية لن تكون بعيدة،بعدما عزّز أسلوب ومقاربات وتصريحات ميقاتي المؤشرات الإيجابية في البلد، الأمر الذي لم يكن متوافراً أيام مهمة رئيس الحكومة الاسبق سعد الحريري، فإستعادت العملة الوطنية الليرة -نسبياً- بعض قيمتها أمام الدولار في السوق السوداء. لكن الغوص في تفاصيل التأليف الحكومي بين رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس الحكومة المكلّف نجيب ميقاتي، كان كفيلاً بفرملة الإندفاعة الايجابية الميقاتية والشعبية بسبب مطبّات، أبرزها عقدة وزارة الداخلية والبلديات: إلى متى؟.
أتت وقائع المؤتمر الدولي لدعم لبنان تؤكد أن العواصم لم تعد تعطي الأولوية للتعاطي مع السلطات اللبنانية، ولا رغبة لديها لإستمرار النظام السياسي القائم الذي يتعرض لإنتقادات فرنسيّة قاسية على لسان الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون. باتت الدول تتعامل مع البديل الذي يُستولد تدريجياً في لبنان: الجمعيات التي تحظى بدعم خارجي معنوي ومادي -يتزايد يوماً بعد يوم- يخوّلها أن تمسك فعلياً الجمهورية اللبنانية عبر نوّابها المفترضين.
منطقياً، سيكون المواطن المحتاج ممتنّاً لتلك الجمعيات التي بدأت بتلبية طلباته في تأمين تكاليف السكن والدواء والطعام خلال الأزمة الحادّة التي يمرّ بها البلد. سيجد المواطن تلك المصادر الماليّة وسيلة إنقاذ لحياته وعائلته من الفقر والعوز والبطالة والغلاء وقلّة الحيلة في بلد تنهار عملته الوطنية وتتدهور المعيشة فيه الى حد الجوع. يُحكى أن طلبات التوظيف تتراكم في مكاتب تلك الجمعيّات بعدما وجد الشباب اللبناني فيها وسيلة سهلة لكسب رواتب بالدولار.
تلقائياً، سنصبح حينها في جمهورية الجمعيّات المدنيّة التي سيندفع معظم روّادها الى خوض التجربة الانتخابيّة بزخم، نتيجة تعبيد الطرق امامهم عبر تقديم خدمات في الزمن اللبناني الصعب. لم تُظهر إستطلاعات الرأي وجود تغييرات واسعة في المزاج الشعبي توحي بالإطاحة بالمنظومة السياسية، لكن فشلها في الحدّ من الأزمة، بعدم الاتفاق على تأليف حكومة قادرة تسعى لمعالجة الأوجاع، سيدفع بالجمعيات المدعومة دولياً الى السير في مشروع استلام البلد بديلاً من أحزاب وقوى وشخصيات سياسية فشلت في محاكاة اولويات اللبنانيين: يرصد المواطنون وقائع النزاع السياسي والمحاصصات الحكومية بإشمئزاز، بإعتباره لا يكترث بأولويات اللبنانيين وأنين الشعب.
لن يكون الخطاب الطائفي ولا التحشيد الجماهيري وفق قواعده التقليدية هذه المرة، قادرَيْن على رص الصفوف الشعبية خلف القوى السياسية التي تستند الى تلك الخطابات. مما يعني ان عدم تأليف حكومة تضع خطة معالجة اقتصاديّة وماليّة مثمرة، قبل الانتخابات النّيابية، سيدفع اللبنانيين نحو البدائل المُتاحة. يُمكن دراسة عدد الجمعيات وحجم تقديماتها، والأهم رصد القدرات التي ستزوّد بها خلال الاشهر الماضية من قبل عواصم دولية.
فمن سيكون الخاسر السياسي الأكبر في جمهوريّة الجمعيّات؟ فلننتظر الأسابيع المقبلة لمعرفة التعاطي مع ملف تأليف الحكومة، وعبره رسم مؤشرات الانتخابات النيابية المقبلة. الإستنتاج الأكيد أن القوى السياسية والشخصيات التقليدية سيواجهون إستحقاقاً إنتخابياً صعباً لا يكرر محطّات الأعوام السابقة.