الإنسان هو الذئب إلى الإنسان الآخر» توماس هوبس. لا يوجد في تاريخ الفلسفة السياسية من يقترب في الأهمية من «توماس هوبس» العبقري الذي حلّل تداعيات الحرب الأهلية الطائفية التي ضربت بلده إنكلترا، وسادت أيضًا في معظم أنحاء أوروبا لعشرات السنين، في القرنين السادس عشر والسابع عشر، وعلى إثرها وبسببها وضع معظم أعماله. أهمها كان كتاب «الطاغوت» Leviathan، ذي النزعة المادية الواضحة، حيث اعتبر أنّ كل فعل يستدعي ردّة فعل.
من هذه الحالة المادية والعلمية الابتدائية للعقل، إنخرط هوبس في مشروعه الرائد والسابق للتاريخ، لإيجاد حل علمي وعقلاني للتعاسة التي تفرضها الحالة في الطبيعة على الحالة الإنسانية. وقد ركّز مسعاه على الحدّ من تداعيات النزعات العنيفة للبشر، في سبيل السماح بإقامة علاقات تستند إلى الأخلاق في المجتمع، وبالتالي إمكانية الحفاظ على السلام والنظام، لأطول مدة ممكنة.
لذلك، فقد تصور حالة الإنسان في الطبيعة، أي حيث لا ضابط تعاقدياً سياسياً بين البشر، وحيث تنعدم جميع القيود الاجتماعية. ففي تلك الحالة، تكون هناك ندرة الموارد الضرورية للبشر، في حين أنّ جميع الرجال متساوون في قدرتهم على إلحاق الأذى بالآخرين. هنا، تكون النتيجة الحتمية أن يتحول التنافس إلى صراع عنيف من أجل البقاء والحفاظ على الذات. الحالة في الطبيعة تنطوي على انعدام الأمن وعلى عدم وجود حياة مستقرة أو هانئة. بالنسبة لهوبس، من دون وجود قوانين متوافق عليها كمرجعية، أو في حال غياب أي شخصية أو هيئة لديها القدرة على فرضها، سيلجأ الجميع إلى القتل عند الضرورة. يقول: «في عالم تشح فيه الموارد الأساسية، حيث يكافح الرجال من أجل العثور على الغذاء والماء في سبيل البقاء على قيد الحياة، فإنّه يمكن، في الواقع العقلاني، اللجوء إلى قتل أشخاص آخرين قبل أن يحاولوا هم قتلك. الإنسان في الطبيعة سيكون مهتمًا بنفسه بأنانية سافرة، هدف كل رجل هو مصلحته الخاصة» هي حالة المصلحة الذاتية غير المقيّدة والحقوق الطبيعية غير المحدودة. نتيجة لذلك، سوف يبرز عامل انعدام الثقة المتبادلة بين الناس، وفي نهاية المطاف تصبح الحرب حالة دائمة. في حاله الطبيعة «كل رجل هو عدو لكل رجل. حياة الإنسان، موحشة، مقرفة، متوحشة وقصيرة» لكن، وبظل قوانين الطبيعة، يسعى الرجال إلى البحث عن السلام، للأسباب ذاتها في الحفاظ على الذات. من هنا، تنشأ مجموعة جديدة من القيم الأخلاقية القائمة على الامتنان والتواضع والرحمة، كوسيلة بديلة للحفاظ على الذات، بدل القتل والصراع الدائمين. هنا تنشأ الدولة بتعاقد مضمر على تولية سلطة الطاغوت على الجميع، وهو التعاقد الذي يجعل من المجتمع الآمن أمرًا ممكنًا.
بالنسبة لهوبس، لا تُطبق مبادئ الحياة الأخلاقية إلّا بوجود نظام استبدادي عام يمكنه ضمانها ويحتكر كل وسائل القمع (السلاح والقوة). يبقي قانون الطبيعة مستترًا تحت ظل سلطة ترعى وتفرض بالقوة الصارمة العلاقات بين البشر، لكن الأمر ينعكس بالكامل متى حلّت حالة التهديد للذات، أو عندما تضعف تلك السلطة، أو عند الحالتين.
ما أراده هوبس من هذه السردية هو إيجاد طريقه للسيطرة على قوانين الطبيعة البشرية والتمكن من التحكّم بها، وذلك عن طريق عقد اجتماعي يمكن أن يسمح للإنسان بأن يحيا حياة سالمة ومنتجة وعادلة. وحذّر من أنّ الفوضى ستسود حتمًا في حالة انحلال السلطة السياسية التي ينبغي أن تكون مسؤولة عن حماية النظام الاجتماعي.
لماذا هذا الكلام الآن؟ لأنّه مهما حاولنا تجاوز حالات الشذوذ عن منطق سلطة الدولة، وتسامحنا مرغمين، من خلال تعابير مموهة مع تفلّت السلاح غير الشرعي، فإنّ الأمر يبقى تهديدًا دائمًا وحتميًا بمجرد استمرار الحالة غير السوية لوقت كافٍ لتفاقم الأمور. لقد تمكنت الحال القسرية بوجود الاحتلال السوري كسلطة رادعة من تغطية الحالة الشاذة، ومن ثم الحالة الريعية العامة، حيث كان وهم البحبوحة يغطي على ندرة الموارد ويخفف من حدّة التنافس عليها، سببين رئيسيين في تأجيل العودة إلى حال الطبيعة. لقد تمّت رشوة المواطنين بالإجمال بمسائل الدعم على السلع والمحروقات والكهرباء ومن خلال الفوائد العالية على الودائع على مدى سنوات، إلى أن حصل الإفلاس ووقعت الواقعة كنتيجة حتمية، وأدرك الناس بالمليان شح الموارد.
ما حصل منذ أيام في خلدة ليس حدثا طارئًا، أو بجعة سوداء تُضاف إلى سلسلة بجعاتنا اليومية، بل هو نتيجة تراكم مؤشرات حال غياب السلطة الموحّدة المعترف بها بأنّها فوق الجميع، وتفلّت المجرمين من الحساب والعقاب، واستباحة الحدود والقوانين، والاستعراضات المسلحة تحت راية المقاومة المغلّفة بالمعاني العاشورائية، والتماثل في الحقوق بين الأفراد والمجموعات في حق حمل السلاح والدفاع عن النفس، أدّى كل ذلك بشكل منطقي إلى حلول المأساة المرشحة إما للتفاقم وإما للتكرار بشكل أو بآخر. الحل الوحيد والمستحيل هو بالعودة إلى سلطة الدولة، فلا أحد سيتحمّل تبعات حال الطبيعة، ولا أحد يمكنه أن يفترض السيطرة من خلال فائض القوة، فالكل سيكونون قادرين على الأذية، وستعود الذئاب حتمًا لتحكّم البرية.
نحن اليوم نعيش الذكرى الأولى لجريمة الرابع من آب، ولا يزال الغموض يلف حيثياتها المريعة، لكنها ببساطة جزء من مسار واحد يبدأ بغياب الدولة كمرجعية وحيدة للحكم في القوانين وفي حقوق الناس، وما حصل في خلدة لا يفرّق عمّا حصل في حرب تموز أو في حرب سورية وانشغال بعض اللبنانيين فيها، عنوانه واحد، العودة إلى حال الطبيعة.