استلمت من أخي وشريكي في الخدمة، الأب رامي ونّوس، خادم رعية كنيسة القديس جاورجيوس في برمانا، بعض الأسطر، التي تتناول موضوع الأهل، بمضمون وجداني. وقد أشار إلى أن "أجمل الأمور في ​الحياة​ هي رؤية الأهل لأولادهم يكبرون أمامهم. ولكن من أصعب الأمور في الحياة هي رؤية الأولاد لأهاليهم يكبرون أمامهم".

كلمات "ونّوس" الصادقة حرّكت دموعي وأحاسيسي، أنا الذي ودّع والديه، دون أن يتمتع بشيخوختهما. الظروف لم تسمح بمواكبة هذه ​الشيخوخة​. داهمهما المرض، فانصبّ اهتمامي على مواكبتهما صحيًا، دون أن أعيش أجمل لحظاتها.

من هنا، لا بد لكلّ ولد أن ينظر إلى أهله، الذين يكبرون أمامه، نظرة مقدّسة، نابعة من أهمية إكرام الوالدين، التي ربطها الله بوعد: "أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ لِكَيْ تَطُولَ أَيَّامُكَ عَلَى الأَرْضِ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ"(خر 20: 12).

إكرام الوالدين يأتي نتيجة فهمنا لإكرام الله، (نيّال يلي بيكرّم أهلو بهالدني، بيكون الله راضي عنّو). وبالتالي كما تعامل أهلك، سيعاملك أولادك، وكما تريد أن يعاملك أولادُك، عامل أولًا أهلك.

يقول المثل الشائع عندنا: "اللّي ما عندو كبير يشتري كبير"، أو بمكان آخر يستشير كبير.

هذا المثل، حسب الروائي سلام الراسي، مأخوذ عن قصة ملك أراد قتل الشيوخ في مملكته، لعدم الجدوى والمنفعة منهم، لكنّ حادثة حصلت معه، إذ نطق أحد الشباب بحكمة تلقّنها من أبيه، الذي خبّأه خوفًا من بطش الملك، وباح بالسرّ عندما هدّده، فما كان من الملك إلا أن أعفى ذاك الشاب من العقاب، والعودة عن قراره في شأن شيوخ مملكته. عندها انفرجت أساريره وقال هذا المثل، الذي بات على كل شفّة ولسان.

ما يؤلمني اليوم كثيرًا، أنّ معظم الأولاد يسعون لتأمين الدواء لأهلهم، وهو غير متوفر في الصيدليات، بسبب السياسة الحمقاء التي اتّبعها المسؤولون عندنا، وفجور التجّار والمستوردين، وأوصلتنا إلى ما نحن عليه. فكم من شخص يتواصل معنا يوميًا، من أجل الحصول على حبّة دواء، تنقذ شيخًا أو مريضًا أو طفلًا، ونحن مكبّلون لا قدرة لنا على تلبية النداء.

ورغم الضيقة والأزمة التي نعيشها، تسطع أمامنا محبّةُ الأولاد لأهلهم، والإهتمام بهم، ماديًا ومعنويًا وطبّيًا. دون أن ننسى الأهل الذين يسعون ليلًا ونهارًا، لتأمين أبسط المستلزمات لأولادهم. وقد شهدنا أيضًا تضحيات جسام من كبار في السن لمصلحة شباب في مقتبل العمر. وهنا تستوقفني قصّة ذاك الكاهن الذي رفض استعمال ماكينة التنفس، وتجييرها إلى شاب، أصيب بوباء ​الكورونا​. هذا مثال التضحية من رجل الله المسنّ، لمصلحة الشباب أبنائهم، فكم بالأحرى تضحيات ظهرت جليًا من أهل تجاه أولادهم.

طبعًا، استطاع هذا الوباء، أن يُظهر البعد الإنساني بقوة، عند الأهل تجاه أولادهم، والعكس صحيح. كما أن الضائقة الإقتصاديّة حرّكت قلوب المعطائين، لكي يحوّلوا أموالًا لأهلهم، سيّما إذا كانوا في بلاد الإغتراب. وقد سمعت عن معطائيين كثر، يضعون أمامنا إمكانيات ماديّة وعينيّة لخدمة الناس عمومًا وكبار السن خصوصًا. هذا ما أثلج قلبي، وشجّع عزيمتي، وعزيمة آباء كثر في رعاياعم، للإستمرار في العمل الإجتماعي والتطوعي.

كبارنا بركة من لدن الله، لذلك علينا ألاّ نهملهم، مهما اشتدّت الأزمات. فهم بحاجة إلى الكلمة الطيبة واللمسة الشافية، التي توازي العلاجات والأدوية مجتمعَين. بهذه العلاقة لا تعد تصعب عليكم رؤيتهم يكبرون أمامكم.

رجائي أن يبقى في وطننا حكماء، لأن "شيبَ الإِنْسَانِ هُوَ الْفِطْنَةُ، وَسِنَّ الشَّيْخُوخَةِ هِيَ الْحَيَاةُ الْمُنَزَّهَةُ عَنِ الْعَيْبِ"(حك 4: 9). فالحكماء والعقلاء قلَّ وجودهم في ​لبنان​، والدليل ما نشهده من فلتان على كافة الصعد والمستويات، ولكن نبقى على الرجاء.

فلا تهملوا هذه الوديعة، ولا تقصّروا في خدمة أهاليكم، واستفيدوا من حضورهم معكم، وفيما بينكم، ومن حكمتهم وبصيرتهم وخبرتهم، ورجاحة عقلهم، حتى لا تندموا عندما تفقدونهم، وعندها لا ينفع الندم.