لا شك أن الوقت هو هبة اللـه للإنسان، لأن الإنسان في النهاية هو بضعة أيام على هذه الأرض، ولكن إتقان التوقيت هو الذي يجعل هذا الوجود مفيداً أو متميزاً أو مثمراً. وقد عبّرت الأمثلة التي تطرحها شعوب مختلفة عن أهمية التوقيت؛ فالمثل الإنكليزي يقول «التوقيت هو الجوهر»، والمثل الأميركي يقول «التوقيت هو كل شيء». وقد لاحظتُ من خلال متابعتي لأمور شتّى أن الإنسان يمكن أن يخسر رهانات مهمة في الحياة نتيجة عدم اهتمامه بالتوقيت رغم توافر كل المؤهلات والشروط التي تمكّنه من كسب الرهان فقط لو أحسن التوقيت. ولاحظتُ حيوية ومصيرية التوقيت وخصوصاً في الإعلام والسياسة؛ فحين تتناقل وكالات الأنباء خبراً تعتبره الخبر الأول؛ حينذاك يمكن لك أن تدلي بدلوك وأن تجد آذاناً مصغية لأنها متعطشة لسماع أي شيء يتعلق بهذا الخبر، ولكن إذا انتظرت لليوم الثاني لن تجد من يستقبل خبرك حتى وإن كان أكثر مصداقية وقيمة من كل ما قيل في اليوم الأول، وهذا ذاته ينطبق على السياسة والأعمال أيضاً.
إن مراجعة متأنية لتاريخنا العربي وخاصة لتاريخ الصراع العربي الإسرائيلي تُري أن العدو أحكم استخدام التوقيت في حين لم يحسن العرب ذلك لأنهم لم يعملوا من منطلقات إستراتيجية واضحة وكانوا في أغلب الأحيان يعالجون ظواهر الأحداث بدلاً من مسبباتها الحقيقية. وبما أننا لا نستطيع أن نغير شيئاً في الأحداث التي مضت يجب علينا على الأقل الاستفادة منها لقراءة ما يحاك لنا اليوم قراءة معمقة وواعية لكي نتعامل معها في الوقت المناسب وقبل فوات الأوان.
لقد صدّر الغرب لنا ومنذ القرن التاسع عشر مصطلح «ميثاق إبراهيم» الذي يجمع بين المؤمنين قبل أن يتحول في القرن العشرين إلى حقل دراسات مستقلة للديانات الإبراهيمية، وطبعاً المقصود فيها اليهودية والمسيحية والإسلام وقبل أن تصدر تفرعاته عن مؤسسات أهلية ثقافية وسياحية في الغرب تتحدث عن الأخوة الإبراهيمية العابرة للديانات والشعوب والبلدان، إلى أن انطلقت في العام 2004 رسمياً في جامعة هارفارد «مبادرة مسار الحج الإبراهيمي» بدعم من مشروع التفاوض الدولي في كلية الحقوق في جامعة هارفارد وبمشاركة عالمية لباحثين ورجال دين وأعمال وخبراء في السياحة البيئية وآخرين. وهدف المبادرة هو افتتاح مسار سيراً على الأقدام يسلك مواقع ثقافية ودينية وسياحية يتتبع خطا النبي إبراهيم عليه السلام منذ أكثر من أربعة آلاف عام، ويبدأ المسار من مدينة أور العراقية مروراً بإيران وسورية وصولاً إلى مدينة الخليل الفلسطينية حيث يعتقد أن قبر النبي إبراهيم الخليل هناك.
وبدأت منظمات أميركية أهلية وغربية تدعو إلى إحياء هذا المسار ثقافياً وسياحياً وروحياً وتتحدث عن فوائده الاقتصادية في حين ركز القادة الأميركان على استغلاله لأهداف أخرى؛ إذ حين أشرف الرئيس جيمي كارتر على اتفاق كامب ديفيد بين مصر والكيان الصهيوني قال في كلمته « دعونا نترك الحرب جانباً، دعونا الآن نكافئ كلّ أبناء إبراهيم المتعطشين إلى اتفاق سلام شامل في الشرق الأوسط، دعونا الآن نستمتع بتجربة أن نكون آدميين بالكامل وجيراناً بالكامل وحتى أخوة وأخوات».
وفي عام 1993 حين أشرف الرئيس بيل كلينتون على توقيع اتفاق أوسلو بين إسحق رابين وياسر عرفات قال: «إن أبناء إبراهيم؛ أي نسل إسحق وإسماعيل، انخرطوا معاً في رحلة جريئة، واليوم مع بعضنا بكل قلوبنا وأرواحنا نقدّم لهم السلام».
وفي عام 1994 وخلال اتفاقية وادي عربة التطبيعية بين الأردن والكيان الصهيوني قال الملك حسين: « سوف نتذكر هذا اليوم طوال حياتنا لأجل أجيال المستقبل من الأردنيين والإسرائيليين والعرب والفلسطينيين، كل أبناء إبراهيم». وفي إطار توظيف الإبراهيمية سياسياً برز في الغرب مصطلح «الدبلوماسية الروحية» وتم تعريفه بأنه مسار من مسارات التفاوض تستهدف حل النزاع أو منع حدوثه من أجل بناء سلام ديني عالمي عبر تقارب الديانات الإبراهيمية أو الدين العالمي الواحد.
وفي هذا الإطار ذاته أتت زيارة قداسة بابا الفاتيكان لمدينة أور الأثرية وللمرجعية الشيعية في النجف السيد السيستاني كي يتم إدخال المرجعية الشيعية في هذا المسار بعد أن طبّعت دول عربية أخرى مع الكيان الصهيوني. ولكن اللافت في تلك الزيارة أن قداسة البابا قد اصطحب معه عشر بعثات أثرية للتنقيب عن الآثار في مدينة أور العراقية؛ فما علاقة الآثار بهذا المسار؟
تقول الدكتورة هبة جمال الدين مدرس العلوم السياسية في القاهرة إن الهدف النهائي لهذا المسار هو الكشف عن آثار تُثبت أن الشعوب الأصلية لهذه المنطقة ليسوا العرب بل اليهود الذين تم تهجيرهم من البلدان العربية، والمطالبة بتعويضات لهم ومحو الثقافة العربية وتأسيس اتحاد الأرض الإبراهيمية المشتركة مع رموز دينية جديدة وثقافة جديدة باشروا بالتأسيس لها من خلال تسجيل «المحكي» أو «الحكي»؛ أي توثيق تاريخ جديد من أفواه من يختارون ليحلّ مكان التاريخ الموجود والمعتمد في المنطقة، وقد كتبت الدكتورة هبة جمال الدين كتاباً عن «المسار الإبراهيمي الملغوم» فنّدت فيه الأهداف السياسية البعيدة لهذا المشروع ألا وهي إزالة الحدود وإزالة الانتماء للدول كما نعرفها اليوم، وتقويم المواطنين كمواطنين ينتمون فقط للديانة الإبراهيمية والتي من دون شك سيكون الغرب والكيان الصهيوني هما المشرفان على وضع أسس هويتها والانتماء لها.
وقد تبنى الرئيس الأميركي ترامب هذه التسمية في الوثائق الأميركية، ولكن ومنذ فترة أصدر الرئيس بايدن أمراً بشطب مصطلح الإبراهيمية من الوثائق واستبداله بـ«التطبيع»؛ إذ نتذكر أن الاتفاقات الأخيرة التي عقدت بين الإمارات العربية المتحدة والبحرين من جهة «إسرائيل» من جهة ثانية تمت تسميتها بـ«اتفاقات أبراهام»، والسبب أن الرئيس بايدن أمر بحذف هذا المصطلح لأن هوية المشروع بدأت تتكشف للباحثين والمناهضين له فخاف عليه أن يتم إجهاضه واعتبر أن الوقت لم ينضج بعد للإفصاح عن هذا المشروع الخطير والترويج له.
ويأتي هذا المشروع نتيجة إخفاق الكيان بالتطبيع مع الشعب العربي في مختلف أقطاره رغم أنه وقّع اتفاقيات مع حكومات متعاقبة في دول عربية مختلفة إلا أن هذه الاتفاقيات لم تحظ بتأييد الشعب ولم تترجم على أرض الواقع ولذلك فإن المسار الإبراهيمي يهدف إلى التطبيع الشعبي مستخدمين غطاء دينياً وسياحياً وإنسانياً للحديث عن المحبة والأخوة في الوقت الذي يتم الإبقاء على احتلال الأرض وقتل أهلها الأصليين ونهب الثروات وابتلاع الحقوق.
إن المطلوب اليوم من المرجعيات البحثية والدينية والسياسية في وطننا العربي هو مقارعة هذا التيار بالفكر والحجة والمنطق والحقوق وعدم إغفاله أو السكوت عنه، والتوقيت هو البارحة واليوم وغداً. وألا يُسمح لمثل هذه الأفكار والرؤى أن تصبح جزءاً من المناهج التعليمية حيث تعمل منظمات مختلفة لدسّ هذه المفاهيم في مناهج عربية، وأن يتمّ تفنيد خطورة الاسم والمسمى والأهداف الملغومة المبطنة لمشروع يستهدف عروبتنا ووجودنا وحقوقنا في حضارتنا وتاريخنا وأرضنا ومستقبل أجيالنا.