بعد أن تأكدت أميركا في العام ٢٠١٨ أنّ ما أرادته لسورية في الحرب الكونية التي شنتها عليها لن يتحقق، وأنّ سورية صمدت وحافظت على كيانها وشخصيتها القانونية وموقعها في محور المقاومة ودورها في النظام الإقليمي بعد ذلك انقلبت الى حرب من نوع آخر او لنقل طوّرت عدوانها ليكون العامل الاقتصادي المتبوع أو المواكب بأعمال عسكرية ميدانية هو البديل للحرب الإرهابية التي شنّت على المنطقة بعنوان «الربيع العربي»، «ربيع» أضرم النار في ٦ دول عربية وهدّد ٤ دول أخرى وساهمت بتمويل نيرانه ٥ كيانات عربية قائمة تحت عنوان مشيخة أو إمارة أو مملكة.
أما لبنان فقد كان دوره في البدء بحسب المخطط الغربي محاصرة سورية ولذا رفع شعار «النأي بالنفس» وهو الشعار الباطل الكاذب الذي لم يهدف رافعوه الا لتنفيذ أوامر أميركية للنيل من سورية أو لإحكام الحصار عليها بعد ان أقفلت حدودها مع كلّ من الأردن والعراق وتركيا وبقي معبر لبناني شبه وحيد هو المتنفس السوري للاتصال بالخارج ولو استطاع أهل النأي بالنفس إقفاله لفعلوا لكن موازين القوى الداخلية ووجود المقاومة عطل عليهم تنفيذ رغبتهم ثم عطلت هذه المقاومة معظم مفاعيل «النأي بالنفس» وساهمت هذه المقاومة في الميدان السوري وعلى المسرح اللبناني في منع تحقيق الحرب الكونية لأهدافها في سورية ومنها الى بقية مكونات محور المقاومة.
وبعد نيف وسبع سنين من إطلاق الحرب الكونية علي سورية، تيقن المعتدي من أمرين: الأول استحالة إسقاط سورية خاصة أنها في مهلة ٢٠ شهراً استعادت الأرض التي أفسد الإرهاب أمنها في ٥ سنوات، والثاني أنّ وجود محور المقاومة وتماسك مكوّناته ورأس الحربة فيه حزب الله والمقاومة التي يقودها في لبنان ومنه الى الاقليم بسقوف متفاوتة ان وجود هذه المقاومة عامل معرقل لأي عدوان على سورية او مانع له لتحقيق أهدافه او مساهم بالمنع الي جانب عوامل أخرى، ولذا كان القرار لأميركي الاجرامي ضد لبنان عامة وضد المقاومة فيه بشكل خاص، قرار الانهاك والتدمير وترجم بخطة تبدأ بالفراغ السياسي لتوهين الدولة وتنتهي بعدوان «إسرائيلي» يفكك المقاومة وبينهما مراحل من الانهيارات المالية والاقتصادية والامنية وهي الأهم، لكن المخطط عوّل على الانهيار الأمني الذي يتمكن بمقتضاه من محاصرة المقاومة في داخل لبنان وقطع الطرق بوجهها وتقطيع أوصالها و إشغالها بالدفاع عن نفسها وبيئتها.
وفي آذار ٢٠١٩ جاء وزير خارجية أميركا بومبيو الى لبنان في زيارة لا تتصل بالشأن الدبلوماسي بين الدول بل كان في مهمة خاصة هي اطلاق الخطة التي خصصت لها الاموال من أميركا والخليج وحشدت لها «القيادات» في ما كان يدعى قوى ١٤ اذار وسخرت لها محطات الاعلام ومنابره وأقلام اعلاميين والسنتهم، ولم يوفر عامل من عوامل نجاح هذه الخطة إلا وزجّ به في الميدان فنجحت الخطة في مراحلها الثلاث السياسية والمالية والاقتصادية وتسبّب الانهيار في هذه المواضيع في جعل نصف اللبنانيين على أبواب العوز والفقر، كما جعلت من يملك المال لا يطال ماله وان وصل اليه فانه لا يصل الى حاجاته من الدواء او الغذاء والطاقة.
في ظلّ هذا المشهد اللبناني المأساوي الذي ساهم في صنعه لبنانيون من مختلف القطاعات السياسية والأهلية والاقتصادية والمالية، بدأت أصوات الشعب تتعالى أنيناً ورفضاً للواقع، وفهمت «إسرائيل» ان خطة بومبيو حققت أهدافها وان دورها في الساحة اللبنانية ضد المقاومة لنزع سلاحها وتفكيكها اقترب أوانه وإذا بها وللمرة الأولى منذ العام ٢٠٠٦ تعلن صراحة على لسان بعض مسؤوليها السياسيين والعسكريين فضلاً عن الخبراء الاستراتيجيين والباحثين في الشأن، تعلن بأنّ «حرب لبنان الثالثة» باتت مسألة وقت فقط وهي تعني بالعبارة هذه انّ تنفيذ العدوان وفقاً لخطة بومبيو في مرحلتها الخامسة بات ينتظر اكتمال بعض الإجراءات، أما القرار به فقد اتخذ.
وهكذا وفي أسبوع واحد شهد الميدان اللبناني تحركات متنوّعة متباعدة في المكان ومتوافقة في الأهداف، فكان اغتيال استهدف رجل أعمال من بيئة المقاومة تبعته مجزرة نفذت بحق مشيّعيه، ثم كان تحشيد غير عادي للاحتفال بالذكرى السنوية الأولى لانفجار/ تفجير المرفأ ثم كان إطلاق ٣ صواريخ يتيمة من أرض في الجنوب باتجاه فلسطين المحتلة سقط بعضها في أرض لبنانية تبعه قصف «إسرائيلي» معاد بالمدفعية استهدف وفقاً للمتحدث «الإسرائيلي» موقع إطلاق الصواريخ.
بيد انّ الأخطر في كلّ ما جرى هو إقدام «إسرائيل» على الزجّ بطيرانها الحربي لقصف أهداف تقع خارج المنطقة التي تدّعي انّ الصواريخ الثلاثة انطلقت منها، وهنا فهم من التصرف «الإسرائيلي» بأنه يرمي الى أبعد مما تتطلب إجراءات الدفاع الميداني المباشر وبأنه معطوفاً على الأحداث الأمنية التي سبق ذكرها يتصل بشكل أو بآخر بالخطة الأميركية الإجرامية الجاري تنفيذها في لبنان منذ العام ٢٠١٩ وانّ ما يقوله «الإسرائيليون» عن انّ حرب لبنان الثالثة باتت قريبة ومسألتها مسألة وقت فقط هو كلام يعبّر عن حقيقة موقف وليس مجرد تهويل وحرب ونفسية وان «إسرائيل» أرادت من عدوانها الجوي ان تختبر المقاومة في جهوزيتها وقرارها في الذهاب الى المواجهة، وكانت «إسرائيل» تتوقع أن تحجم المقاومة عن الردّ، وأن تبتلع العدوان بتبريرات مختلفة وهنا تكون «إسرائيل» قد كسرت قواعد الاشتباك التي قيدتها منذ العام ٢٠٠٦ ومنعتها من العدوان على لبنان. كما انها تكون تيقنت انّ المقاومة غير جاهزة للحرب وتتجنّب الانزلاق إليها.
وعليه نقول انّ «إسرائيل» بنت تقديرها لعسكري على مقولة «إنّ الوضع الداخلي اللبناني بنتيجة خطة بومبيو بات يقيد المقاومة ويمنعها عن المجازفة بأيّ عمل عسكري قد يقود الي ردّ أعمق ويتبعه حرب أشمل ولذا كانت «إسرائيل» كما يبدو مطمئنة الى نتائج عدوانها التي ستكون في الحدّ الأدنى سكوت المقاومة وتغيير قواعد الاشتباك وفي الحد الأقصى استدراج المقاومة الى حرب تحمل هي مسؤوليتها.
بيد انّ المقاومة التي وضعت في ذاك الأسبوع الأحمر تحت وطأة الاختبارات القاسية والمتنوعة قامت وكعادتها بتقدير الموقف وفككت الملفات لتعالجها وربطت بينها لتتعمّق بطبيعة المرحلة وما يتوجب فعله. ولهذا كان تعاطيها الذكي والحليم الذي ليس فيه وهن او ضعف مع ملفات المرفأ والاغتيال والمجزرة، وكان حزماً ورداً مدروساً وفقاً لقاعدة «التناسب والضرورة» في مواجهة «إسرائيل»».
نقول الضرورة لأنّ المقاومة تيقنت من وجوب الردّ وضرورته من أجل حماية المكتسبات المتحققة منذ العام ٢٠٠٦ وفي طليعتها الأمن المستقرّ للجنوب وللبنان، ولا يكون ذلك الا بتثبيت قواعد الاشتباك، والثاني كانت تعلم انّ مظهر التردّد والضعف سيغري العدو بالعدوان ليحقق المرحلة الخامسة والأخيرة من خطة بومبيو في ظلّ وضع داخلي مهترئ وأصوات لبنانية تنعق بما يمليه عليها الخارج الذي تقدم له الخدمات المدفوعة أو المأمولة دفع الأجر والمكافأة.
اما في التناسب فقد شاءته المقاومة لتثبيت قواعد الاشتباك فاختارت القصف بالصواريخ مقابل صواريخ الطيران الذي لا تملكه واختارت أرضاً مفتوحة أي بالمعنى العسكري منطقة غير مبنية وغير مأهولة ولا تشتمل على مراكز عسكرية لأنّ العدو في عدوانه اختار الأرض المفتوحة وبهذا المعنى لأنه أراد الاختبار الذي يبني عليه قراره لبدء الحرب الثالثة، اما في حجم الذخيرة المستعملة فقد اكتفت بـ ٢٠ صاروخ من أجل التناسب مع الـ ١٦ صاروخاً التي أطلقها العدو.
عندما اعتدى العدو وزجّ بطيرانه كان مطمئناً لعدم ردّ المقاومة التي كانت وفقاً لتقديره منشغلة بهموم الداخل وبجوع بيئتها، ولكن عندما ردّت المقاومة فإنها صدمته وأطاحت بطمأنينته تلك ونسفت أحلامه بتغيير قواعد الاشتباك وأغلقت أبواب الحديث عن الحرب الثالثة حيث انّ الصواريخ العشرين التي سقطت في ارض مفتوحة في مزارع شعبا لم تحرق أعشاباً سقطت عليها فحسب بل أحرقت أحلام «إسرائيل» وأحلام بعض من في الداخل المحترف العمل معها وأحرقت الشهية «الإسرائيلية» لحرب تنجز خطة بومبيو في مرحلتها الخامسة.
والآن يُطرح السؤال هل تتوقف أميركا عن عدوانها على لبنان ويتوقف العمل بخطة بومبيو لإنهاكه ودفعه للموت البطيء بعد أن سقطت فرضية الحرب من الخطة؟
نأمل أن يكون الجواب إيجابياً خاصة إذا اهتدى اللبنانيون الذين تتخذهم أميركا أسلحة لقتل لبنان وفهموا الواقع المستجد وتراجعوا أو أجبروا على التراجع عن إسداء الخدمات لأميركا عندها يتغيّر الوضع وينبلج الأمل ببصيص نور نخرج به من قعر الهاوية التي نحن فيها.