يجري هذه الأيام نقاش بشأن ما اذا كان سيتمّ استئناف مفاوضات فيينا للاتفاق على عودة جميع الأطراف الموقعة على الاتفاق النووي إلى التزاماتها به، ام أنّ استئناف هذه المفاوضات لم يعد ممكناً على ضوء تصاعد التوتر في بحار الخليج، وارتفاع منسوب التصعيد الأميركي الغربي ضد إيران، بالتناغم مع التصعيد «الإسرائيلي».
على الرغم من هذا النقاش المحتدم في أوساط الكتاب والمراقبين، إلا أن المتابع بدقة لمصالح جميع الأطراف المعنية بالاتفاق النووي، يدرك جيداً انّ هذه الأطراف لها مصلحة أكيدة في استئناف المفاوضات للعودة إلى إحياء العمل بالاتفاق، وليس لها مصلحة باستمرار التصعيد والذهاب إلى إقفال الأبواب أمام العودة إلى المفاوضات.. لا سيما انّ جميع الأطراف لها مصلحة بوقف التصعيد وعودة مناخات التهدئة واستئناف المفاوضات للاتفاق على إعادة العمل بالاتفاق النووي للأسباب التالية:
اولاً، مصلحة أميركا السياسية في إحياء الاتفاق النووي ومنع انهياره، لمواصلة مراقبة البرنامج النووي الإيراني والحيلولة دون امتلاك إيران القدرة على إنتاج القنبلة النووية.
ثانياً، مصلحة الدول الاوروبية في الاستثمارات الاقتصادية الضخمة في إيران والتي تسهم في انعاش اقتصادات الدول الأوروبية التي تعاني من التراجع الكبير في معدلات النمو…
ثالثاً، مصلحة طهران في إنهاء كامل العقوبات الأميركية وفكّ الحصار المفروض على إيران، بما يمكنها من العودة إلى عمليات تصدير النفط بالمستويات التي كانت عليها قبل الحصار واستطراداً استعادة مداخيلها من العملات الصعبة بما ينعش الاقتصاد ويحسّن من قيمة العملة والوضع المعيشي للشعب الإيراني…
انطلاقا من ذلك فإنّ العودة إلى استئناف مفاوضات فيينا للاتفاق على شروط العودة للالتزام ببنود الاتفاق، ليست موضع نقاش او بحث من قبل جميع الأطراف، بل على العكس ان كلّ الأطراف تريد هذه العودة.
لكن السؤال الذي يطرح يكمن في كيفية تحقيق العودة إلى الالتزام بالاتفاق النووي…
فالولايات المتحدة التي انسحبت من الاتفاق في مرحلة إدارة الرئيس دونالد ترامب، وإخلالها بتوقيعها على اتفاق دولي تمت المصادقة عليه من قبل مجلس الأمن الدولي، تحاول اليوم في عهد إدارة الرئيس جو بايدن إدخال تعديلات عليه كشرط لعودتها للالتزام به ورفع العقوبات التي فرضتها على إيران بعد انسحابها من الاتفاق، وهذه التعديلات تشمل ثلاث أمور أساسية:
أولاً، إتلاف أجهزة الطرد المركزي المتطورة التي أدخلتها إيران على مشروعها لتخصيب اليورانيوم بعد تراجعها عن العديد من التزاماتها نتيجة استمرار واشنطن في رفض العودة للاتفاق من دون شروط.
ثانياً، إطالة المدة الزمنية للاتفاق والتي تسمح لإيران بنهايتها بالتحرر تماماً من ايّ قيود لتطوير برنامجها النووي السلمي تحت إشراف ورقابة وكالة الطاقة النووية.
ثالثاً، الربط بين الاتفاق، وموقف إيران من قضايا الصراع في المنطقة والبرنامج النووي الصاروخي الإيراني، حيث تسعى واشنطن وكيان الاحتلال الصهيوني إلى الضغط على إيران لوقف دعمها لقوى المقاومة ضد الاحتلال، ووقف تطوير برنامجها الصاروخ الباليستي.
لكن من المعروف ان هذه الشروط ترفضها طهران بقوة، وتعتبرها تدخلاً فظاً في سيادة واستقلال إيران، ولهذا أعلن المفاوض الإيراني بإصرار رفض إدخال أيّ تعديلات على الاتفاق النووي، وربط خروج إيران عن بعض التزاماتها بالاتفاق، وخصوصا زيادة نسبة تخصيب اليورانيوم ووقف العمل بالبروتوكول الإضافي مع وكالة الطاقة الذرية، برفع كامل العقوبات الأميركية، والحصول على ضمانات أميركية بعدم الاخلال بالتزامها مستقبلا بالاتفاق.. وتلمس النتائج العملية لتنفيذ الاتفاق، انطلاقا من أنّ القيادة الإيرانية لم يعد لديها ثقة بالوعود الأميركية، وتريد أفعالا وليس فقط أقوالاً.. لأنّ المؤمن لا يلدغ من الحجر مرتين…
انطلاقاً مما تقدّم يمكن القول إنّ المفاوضات سوف تستأنف، وأنّ الولايات المتحدة والدول الغربية لها مصلحة بأن تتوصل المفاوضات إلى اتفاق على إحياء العمل بالاتفاق النووي.. على أنّ محاولات واشنطن الضغط على إيران لتعديل الاتفاق، لن يكون مصيرها سوى الفشل الأكيد كما فشلت واشنطن في إدخال مثل هذه الشروط عشية الاتفاق عام 2015، وبالتالي فإنّ إدارة بايدن لن يكون أمامها من خيارات إلا العودة للالتزام بالاتفاق النووي من دون اي تعديلات، اي كما تمّ التوقيع عليه عام 2015، وأن ما لم تقبل به إيران في السابق، لن تقبل به اليوم وقد أصبحت أقوى مما كانت عليه، وبات بحوزتها أوراق قوة جديدة وفي مقدمها، امتلاكها القدرة على بلوغ العتبة النووية، ونجاحها بتعزيز بناء اقتصادها الإنتاجي وتحقيق الاكتفاء الذاتي باحتياجاتها الأساسية، وتطوير علاقاتها الاقتصادية مع حلفائها لا سيما الصين وروسيا مما مكّنها من كسر الحصار الأميركي وإحباط أهدافه السياسية..