ان ما آلت اليه الأمور اليوم في لبنان، ليس وليد اللحظة أو صدفة، إنما خطة ممنهجة، تعمّدت إشراك مجموعة محددة فقط من المجتمع لتساهم بعمليات صناعة القرارات الإقتصادية، فيما بقيت الأغلبية، مجرّد أضرار جانبية، تابعة، خاضعة لما يقرره أرباب الوطن. للمفارقة، يتناول كتاب "لماذا تفشل الأمم" Why Nations Fail أسباب انهيار الدول، والتي بمطلقها تعود الى الأسس السياسية الإقتصادية للدولة. يعودفشل الدول الى طبيعة المؤسسات السياسية والإقتصادية في البلد، إن كانت "شاملة" تنهض بمستوى المعيشة والخدمات والفرص الإقتصادية والإجتماعية لجميع المواطنين، وإن كانت إحتكارية تعود بالفائدة على أقلية من المواطنين. من هذا التعريف البسيط يمكن إثبات فشل دولة لبنان، لأسباب اقتصادية وسياسية، مرتكزة على بعضٍ من الطائفية والمذهبية السامّة. بالإضافة الى وضع النظام السياسي بأيدي شريحة صغيرة جدا من المجتمع، تحكمت بكل مكامن السلطة والفساد.
اعتماد لبنان على هذه المجموعات القوية المحددة لضمان الإستقرار الإقتصادي أظهر نتائجه. والمواطن اليوم يتحمل العواقب. من خلال تغيير عقليته الإستهلاكية قدر الإمكان، الا أن ليست هذه الممارسات التي ستنهض باقتصاد لبنان. ان تغيير العقلية الإنتقائية وعقلية المحاصصة والإحتكارات والكارتيلات هي التي ستعطي للبناني نمط الحياة الذي يستحقه ويليق به. ما نعيشه اليوم هو أيضاً جزء من حلقة الإنهيار البنّاء الإقتصادية التي تشير الى تفكيك نظام قائم من أجل إفساح المجال لتحسين طرق الإنتاج. محلياً، تنطبق هذه النظرية الى ما هو أبعد من الإقتصاد فحسب؛ ان النظام القائم يقاوم وبكل قوته هذا التغيير الحتمي، وكل ما نعيشه هو تداعيات هذا الصراع بين النظام القديم المهترئ وبين ما يطمح له كل لبناني.
نقف اليوم على مفترق طرق حساس للغاية، ونتائج الإنتخابات النقابية الأخيرة هي "جس لنبض" السلطة الحالية وكيفية تعاملها مع مسار زوالها. في هذا الإطار من الجدير الإشارة الى أن السلطة التي سيطرت على حياة كل لبناني على مدار 30 سنة، لن تتخلى عن هالة العظمة التي خلقتها لنفسها (والشعب ساهم بخلقها الى حد معيّن)، قد تلجئ السلطة اليوم وخصوصاً في الإنتخابات االنيابية المقبلة الى إعادة إنتاج نفسها من خلال الترويج لأسماء، وجوه ومشاريع جديدة، كلها نابعة من المصدر عينه. من السهل تغيير شخص في موقع معين، استبدال نائب بآخر، تغيير نقيب، تعيين مدير عام جديد، الا أن الفساد لا يحارب فردياً، بل مؤسساتياً.
بالعودة الى الحديث عن الإنهيار البنّاء، نحن لا نشكك أننا في عمق الإنهيار، وخلق التغييرصعب، فكيف إن جاء فجأةً وسلبياً؟. يصعب اليوم على اللبناني تقبل فكرة أن نمط الحياة الذي اعتاد عليه أصبح من الماضي. لا، نحن لا نبرر أو نعطي أعذاراً لطوابير الذل أو الشحّ الكهربائي أو الشحادة المصرفية، نحن نتناول حياة الترف التي اعتادها اللبناني والتي في الكثير من الأحيان تختط قدرته المادية وميزانيته. عاش اللبنانيون لفترة لا بأس بها ما قد يسمّى بالبحبوحة المزيّفة، من مبدأ "بيتديّن تيتزيّن"، وحتى تساهل البنوك بإعطاء القروض الإستهلاكية بسبب سياسات مصرفية ومالية خاطئة، وصولاً الى سعر صرف الدولار الذي كان "بخير" ويلائم نمط حياة اللبناني. كلّها كانت عوامل مساهمة بخلق فقاعة من الرفاهية. اليوم، هذه الفقاعة انفجرت، ولا يمكن -لا يجوز- العودة الى ما كنّا عليه.
في الحقيقة، إن اللبناني لم يكن ليخلق نمط الحياة هذا لنفسه لولا وجود عوامل عديدة مسهّلة، شجّعت على الإستدانة، وعلى الإعتماد على العملات الأجنبية بدل الوطنية، وعلى الإعتماد على الفوائد والـ easy money بدل تشجيع الإستثمارات الهادفة، والإعتماد على قطاع خدماتي مهدد بالإنهيار عند أصغر مطب، أو على النظام الريعوي القائم بدل خلق نظام إنمائي متين. لو تمّ وضع خطة استثمارية ذكية، لكان عمل المسؤولون على تشجيع الإستثمارات في مواد أولية، تؤمن له شيئاً من اكتفاءه الذاتي؛ لكانوا زادوا التحفيزات على الإستثمار الزراعي والصناعي وما كنّا سمعنا صرخات المزارعين المنادية بإنقاذ محاصيلهم كل سنة؛ لكانوا خفّضوا الفوائد على الحسابات المصرفية بالليرة اللبنانية وبالدولار، وأيضاً على القروض الإستثمارية الهادفة.
ان ما نعيشه اليوم سيُذكره التاريخ يوماً، الى جانب تجارب دول أخرى استطاعت سحب البساط من تحت أقدام سلطات فاسدة ومتحكمة، ونحن قادرين على ذلك، ليس لأننا فينيقيون مقاومون، بل لأننا لا نملك أي خيار آخر سوى الرضوخ. نعلم تاريخياً أن لبنان يمكنه أن يستعيد دوره الإقليمي والعالمي. النظام الجديد لا يُبنى بين ليلةٍ وضحاها، ولن يأتي دون تضحيات، وإن كان بنمط حياة اللبناني المترف.
وصلنا الى الإنهيار الذي لا عودة عنه، ولكنيمكن أن يكون مدمر أكثر، ما لم تأتي حكومة قادرة على وضع حد له، وقادرة على تحويله الى فرصة لإعادة بناء نظام اقتصادي وسياسي جديد؛ وما لم تنتج الإنتخابات النيابية أي مشاريع متطورة وابتكارية.