منذ استئناف المفاوضات النووية الإيرانية مع الأوروبيين في فيينا، بدأ سيل جارف من التعليقات والمقالات، والتحليلات، والتوقعات، تربط الملف النووي الإيراني بملفات أخرى إقليمية ودولية، تتعلق بصورة مباشرة أو غير مباشرة، بسياسات الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ودورها ونفوذها وتأثيرها في المنطقة والعالم، وتوسعها في برامجها العسكرية الدفاعية التي بدأت تثير قلق ومخاوف أعدائها، وعلى رأسهم الولايات المتحدة و»إسرائيل».
لا يتصوّر أحد انّ إيران، وأياً كانت الضغوط والعقوبات بحقها، والتي وصلت الى ذروتها، سترضخ لمطالب الغرب، أو ستساوم من خلال المفاوضات النووية،على الثوابت الوطنية، والاستراتيجية، التي حملتها الثورة الإيرانية منذ انتصارها قبل 42 عاماً وحتى اليوم. بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، عمد الرئيس الأميركي السابق ترامب، الى إعادة فرض المزيد من العقوبات الشرسة على طهران، لإجبارها على الجلوس الى طاولة مفاوضات جديدة، تنطلق من الصفر، كي تحدّد واشنطن مسبقاً جدول أعمالها، والمواضيع العسكرية الاستراتيجية التي ستطرح على بساط البحث. إلا أنّ طهران رفضت ذلك، طالبة عودة واشنطن الى الإتفاق، ورفع العقوبات عنها. كما أعربت مراراً عن رفضها إجراء مفاوضات تتناول قدراتها العسكرية الدفاعية التي ترتبط بسيادة إيران واستراتيجيتها وأمنها القومي، لا سيما برامجها الصاروخية البالستية، وفصلها عن البرنامج النووي السلمي.
عندما ذهبت طهران الى المفاوضات النووية عام 2013 مع المجموعة 5+1، كانت تضع في حسابها ملفاً واحداً وهو الملف النووي الإيراني، بمعزل عن الملفات الأخرى، التي حاولت المجموعة الأوروبية ـ الاميركية بكلّ قوة ضمّها الى ملف المفاوضات النووية لتشمل كلّ الملفات التي تريد واشنطن أن تضعها تحت المشرحة، ومن ثم وضع إيران أمام الأمر الواقع الأميركي.
إنّ المفاوضات النووية التي كان يحبّذها البعض في الداخل الإيراني مع الجانب الأميركي، مثل الرئيس حسن روحاني، وعلي اكبر صالحي ومحمد جواد ظريف، فإنّ مرشد الثورة الإمام الخامنيئي بدوره، لم يكن مندفعاً أو متحمّساً كما يتصوّر البعض لإجراء المفاوضات، رغم أنه ترك الفرصة لمحبّذي المفاوضات على الدخول فيها. إذ كان مرشد الثورة قبل وأثناء المفاوضات، يعلم علم اليقين، وبكلّ ثقة، حقيقة واشنطن ونواياها إزاء طهران، وهي أنّ الولايات المتحدة لن تقدّم شيئاً لإيران. وقد أثبتت الأيام فعلاً أنّ الإمام الخامنيئي بحسّه العميق كان على حق. لمَ لا وهو الخبير بسياسات أميركا واساليبها، وممارساتها، وما تحضّره وتبيّته حيال شعبه وبلاده!
لقد توقعت واشنطن وحلفاؤها، انّ العقوبات القاسية على إيران، والحصار المفروض عليها، سيلوي ذراعها، ويخضعها لسياسة الأمر الواقع التي سيفرضها الغرب عليها. لكن من يعرف الإيرانيين جيداً، عن قرب، وعن كثب، سيخرج بانطباع واضح لا غبار عليه، وهو أن لا قوة على هذه الأرض تستطيع إرغام القيادة الإيرانية وشعبها على الرضوخ، او إخضاعها أو ابتزازها أو إكراهها على القبول بأيّ مشروع، يتعارض من قريب او بعيد مع مبادئ الثورة الإيرانية، وعقيدتها، وثوابتها، ونهجها، وأهدافها وإنْ كلفها الكثير.
إذا كانت مفاوضات فيينا النووية مع إيران، يُراد منها تحجيم برنامجها النووي وتطويقه، وشلّ قدراته مستقبلاً، فلا ينتظر أحد نجاح المفاوضات، وإنْ استمرت أميركا والغرب معها، في عقوباتهم لعقود وعقود.
إنّ كل الضغوط والعقوبات الدولية التي مورست ضدّ إيران منذ 42 عاما، والتي حملت لواءها واشنطن، ومعها الاتحاد الاوروبي، وحلفاؤها، لم تفلح في ان تنتزع موقفاً واحداً من طهران، يتعارض مع الأسس والمبادئ التي أرساها مؤسس ثورتها! فعلى مدى إثنين وأربعين عاماً من عمر ثورتها، هل تراجعت إيران قيد أنملة عن دعمها للقضية الفلسطينية،
ومقاومة الشعب الفلسطيني لتحرير ارضه؟! هل توقفت إيران يوماً عن دعمها للأنظمة الوطنية المناهضة لسياسة الهيمنة والتسلط؟! هل هادنت إيران يوماً دولة الاحتلال الصهيوني لفلسطين، او تخلت عن المقدسات الإسلامية والمسيحية فيها؟!
هل هادنت إيران يوماً السياسات الغربية في المنطقة، او تلكأت في دعم القوى الوطنية المتصدية للإعتداءات الصهيونية؟! هل تلكأت طهران يوماً في الوقوف بجانب القضايا العادلة لشعوب المنطقة والعالم، وتقديم كلّ وسائل الدعم لها بمقدار ما تتحمّل وتطيق؟! هل هادنت إيران يوماً العدو الصهيوني، او قبلت بوجوده، وهي التي لو أرادت ان توجه إشارات تريح العدو والغرب، لفتحوا أبوابهم دون تحفظ أمام إيران!
لا يتصوّر أحد انّ المفاوضات النووية، ستحدث تغييراً في مفاهيم، ومبادئ، وسياسات، ونهج الثورة الإيرانية. ومن يراهن أو يتصوّر انّ المفاوضات النووية، وما سيسفر عنها، ستحيد وتجبر إيران على إعادة النظر في برامجها الدفاعية العسكرية، والحدّ من قدراتها، لا سيما البرامج الصاروخية، او التراجع عن مبادئها حيال الكيان الصهيوني المحتلّ، أو الانكفاء عن المنطقة، او تقليص دورها ووجودها فيها وفق ما يريده الغرب، او وقف دعمها للمقاومات والأنظمة الوطنية، فهذا أمر غير وارد عند طهران، إن لم يكن مستحيلاً.
إيران لا تتعاطى مع العالم ومع ملفاتها الجوهرية بمزاجية. او اندفاع، أو تذبذب، أو تهوّر. فهي وإنْ انتهت ولاية رئيس للجمهورية، وأتى غيره، فهذا لا يعني مطلقاً، أنه بإمكانه أخذ إيران الى مواقع تصطدم مع روح ثورتها وعقيدها وثوابتها. وهذا الأمر يختلف كلياً في الشكل والأساس، مع العديد من أنظمة الدول في العالم العربي، حيث الحاكم يستطيع في كلّ وقت، وبين ليلة وضحاها، تغيير بوصلة سياسة بلده في الاتجاه الذي يريده، وإنْ كان على حساب الأمة وشعبها، وسيادتها وأمنها القومي!
إيران بقياداتها ومؤسّساتها تتحرك كهرم متماسك من القمة الى القاعدة. وهي بالتالي تعرف ما لها وما عليها، وما تريده أو تقبله أو ترفضه، ومتى تقدم ومتى تحجم. وما المفاوضات النووية إلا الدليل الحي على قوة وصلابة وتماسك الموقف الإيراني، رغم كلّ التهويل والتهديد والتخويف، والإبتزاز الذي لم يزحزح الموقف الصلب لإيران، حيث لم يلحظ الغرب في قيادتها الا المزيد من الصلابة، والقوة والثقة بالنفس، والتمسك بحقوقها الوطنية والقومية والسيادية.
لن يكون البرنامج النووي الإيراني الذي بدأت حوله المفاوضات عام 2003 مع الثلاثي الأوروبي، فرنسا وبريطانيا والمانيا، وبعد ذلك مع المجموعة 5+1 نهاية المطاف، فلا يزال هناك المزيد من الملفات الساخنة التي تريد الولايات المتحدة وحلفاؤها تحريكها، وأبرزها الترسانة الصاروخية الإيرانية وبرامجها المتطورة، والدور الإيراني الفاعل، والنفوذ المتنامي والمؤثر في الشرق الأوسط، لا سيما في منطقة غربي آسيا. هذه الملفات من السابق لأوانه فتحها قبل الإنتهاء من الملف النووي وإغلاقه، فتعقيدات الملفات الأخرى لا تقلّ صعوبة عن تعقيدات الملف النووي، لذلك تبقى كلّ من الولايات المتحدة وحلفائها من جهة، وإيران من جهة أخرى على خطين متباعدين في السياسة والنهج، حيث من الصعوبة بمكان، معرفة وقت تقاطعهما! هو قرار بيد طهران قبل واشنطن!