في ظلّ الانهيار الحارق والصاخب الذي وصل اليه لبنان يحاول معظم من كان سبباً في إنتاج هذا الوضع التنصل من مسؤولياته والقاء التبعة على الغير في أكبر مناورات الغش والتزوير والتلفيق التي يمكن ان يشهدها مسرح سياسي في لبنان او خارجه.
فالانهيار الذي نحن فيه الآن لم يكن نتاج ساعة او يوم من الحكم، والحالة المأسوية التي نحن فيها لم يصنعها فرد او جهة واحدة بل كانت حاصل تضافر سلوك كل من تولى شأناً من شؤون السلطة العامة سواء اضطلع بمسؤولية الممارسة المباشرة وأفسد، او كان في موقع المراقبة والمحاسبة وقصر، ما جعلنا نصل الى حال من الاهتراء والأكل والسير في طريق الموت البطيء.
نعم انه الموت البطيء الذي هو الطريق الذي تدفع أميركا لبنان فيه، بموجب خطة بومبيو ٢٠١٩، انتقاماً منه لأنه يحتضن المقاومة التي تشكل رأس الحربة في مواجهة المشروع الاستعماري الاحتلالي الذي تقوده، وتعويضاً عن فشلها في المنطقة من أفغانستان التي فقدتها بعد ٢٠ سنة احتلال وعدوان وتدمير، الى العراق وسورية اللتان تحضران البيئة العملانية لتنشيط المقاومة ضد الاحتلال الأميركي لطرده طرداً لا يبدو بعيداً.
لقد اعتمدت أميركا خطة تدمير لبنان لتدمر المقاومة فيه، مستغلة وهن البنية السياسية اللبنانية، وفساد من يتولى شؤون الحكم فيها، وعمالة او خوف قسم كبير من هؤلاء المسؤولين، الذين سرقوا أموال الشعب وراكموها في مصارف أجنبية وباتوا أسرى للخارج الذي يهددهم بوضع اليد على تلك الأموال المنهوبة، ان لم ينفذوا أوامره. وبذلك سقط لبنان في الهاوية في «قعر جهنم». ومع هذا يُصرّ معظم المسؤولين فيه على العمل خدمة للخطة الأميركية لإنجاحها على حساب امن المواطن والوطن والدولة.
لقد تولى وللأسف اللبنانيون أنفسهم، وكل في مجاله تنفيذ خطة أميركا في لبنان. سواء كان عالما بما يقوم به وهم الأكثرية الخاضعة لأميركا او جاهلاً للوضع لكنه ينفذ عن غير قصد ما تراه أميركا لإنجاح خطتها. وهكذا بين قصد او غير قصد بات لبنان مسرحاً لتنفيذ خطة تدميرية أميركية لم تر أميركا حاجة لإرسال جندي واحد لتنفيذها واكتفت بعمل اللبنانيين الذين «أظهروا حماسة « في التنفيذ تفوق ما تطلبه أميركا نفسها.
وبهذا حصل الفراغ السياسي كلياً او جزئياً واستمر في لبنان منذ سنتين تاريخ استقالة حكومة سعد الحريري في تشرين الاول ٢٠١٩ بقرار فردي منه، وتمّ الانهيار النقدي نتيجة شلل السلطة التنفيذية والتفرد بسياسات وهندسات مالية اعتمدها حاكم مصرف لبنان ومن معه، وما نجم عنها من انهيار اقتصادي ومعيشي دفع اللبنانيين الى طوابير الانتظار أمام محطات المحروقات والأفران والصيدليات إلخ…. طلباً للضروريات من دواء وغذاء وطاقة إلخ….
ومع هذا الوضع المأساوي الذي ينذر بما هو أخطر وأدهى وأعنى الانهيار الأمني الذي يعقبه العدوان الإسرائيلي الذي هو المرحلة الاخيرة من «خطة بومبيو» التي بها تتحقق الأهداف الأميركية ضد المقاومة ان نجح المعتدي في عدوانه، يطرح السؤال عن الحل، والسؤال الأخطر هل هناك أصلا من حلّ؟ وهل هناك من يبادر الى تلمّس طريقاً لمعالجة الازمة قبل أن يفوت الأوان ويبحث عن لبنان فلا يجده الا في سجلات التاريخ؟!
ان المعالجة الصحيحة والبديهية للوضع اللبناني يجب ان تبدأ من النقطة الأساس ذاتها التي منها بدأت عمليات الانهيار وتحديدا الفراغ السياسي الذي اعقبه الانهيار المالي ثم الاقتصادي وينذر بالانهيار الأمني. لكن هذا الفراغ لا يمكن ان يعالج الا بطريق اساسي محدد هو تشكيل حكومة جديدة تتولى الحكم في ظروف استثنائية ويكون لديها من الإرادة والكفاءة والاستقلالية ما يمكنها من التصدي لخطة التدمير ومنع الانهيار من التمادي. لكن السؤال هنا من اين نأتي بهذه الحكومة في ظل نظام سياسي طائفي بغيض صيغ في الطائف بشكل تعطيلي مقيت حيث نجد فيه الكلّ يعطل الكلّ والكلّ في مواجهة الكلّ؟
بيد انه رغم هذه الحقيقة المرة فانه لا مناص الان من تشكيل حكومة، تتولى ممارسة السلطة التنفيذية بحسب الدستور وعلى علاته، وحتى تشكيل تلك الحكومة التي لا بد منها، نرى وجوب قيام الحكومة المستقيلة القائمة بتصريف الاعمال حالياً وجوب قيامها بممارسة السلطة التنفيذية بالقدر المتاح دستورياً لها وهنا نذكرها رئيساً وأعضاء انّ الدستور أناط بها «تصريف الأعمال بالمعنى الضيق» وفقا للمادة ٦٤ (ولا تمارس الحكومة صلاحياتها قبل نیلها الثقة ولا بعد استقالتها أو اعتبارها مستقيلة إلا بالمعنى الضيق لتصريف الأعمال) والمعنى الضيق يشمل طبعاً كلّ القرارات الضرورية التي تتخذ داخل مجلس الوزراء وخارجه.
فالنص يتكلم عن الحكومة ولا يحصر تصريف الأعمال بالوزراء والكلّ يعلم انّ لأعمال الحكومة وجهين: الأول جماعي في مجلس الوزراء ممارسة للسلطة التنفيذية التي يتولاها مجلس الوزراء منعقدا وفقا للأصول، والثاني فردي او انفرادي على صعيد الوزارة وسلوك كل وزير بمفرده. اما المعمول به حالياً فهو الوجه الثاني فقط وتعطيل للوجه الاول وفي هذا انحراف عن الدستور. وقد أدى شلل السلطة التنفيذية مدة عام كامل الى تحلل في الأداء الرسمي وفوضى سرعت في الانهيار في ظلّ شعور الموظف بعدم وجود من يحاسبه او بأمره.
والى أن يستقيم امر السلطة التنفيذية وتعود الى مسرح العمل الفعلي وترسل رسالة قوية بانها وضعت حداً للفراغ السياسي الحاصل منذ سنتين يبقى الدفاع عن لبنان مسؤولية يضطلع بها وبكفاءة الجيش والأجهزة الأمنية الأخرى ويبقى للمقاومة الدور الآخر صيانة لمعادلات الردع الاستراتيجي ولقواعد الاشتباك القائمة في مواجهة العدو الإسرائيلي الذي يحلم بان تتحقق المرحلة الرابعة من خطة بومبيو ويتمّ الانهيار الأمني ليفتح الطريق امام العدوان الذي تسمّيه «إسرائيل» «حرب لبنان الثالثة«.
انّ الدفاع عن لبنان اليوم ومنع الحرب – العدوان عليه يكون عمليا على مسارين مسار سياسي ـ اقتصادي يبدآ بتفعيل عمل السلطة التنفيذية بتشكيل الحكومة أولاً وقبل أيّ شيء والا تفعيل الحكومة القائمة وبالقدر المتاح، والثاني أمني – عسكري ومقاوم يؤدي الى حماية الامن ويحول دون انهياره حتى لا يمهّد الطريق العدوان خارجي فاذا تعثر العمل على المسار الأول فينبغي ان لا يتأثر المسار الثاني مهما كانت الظروف.
ومن هذا المنطلق نؤيد كل الخطوات التي تقوم بها الهيئات والمؤسسات الوطنية وفي طليعتها الجيش اللبناني لحمية الامن الاجتماعي بما في ذلك ملاحقة محتكري المحروقات، كما نؤيد ما تقوم به الهيئات غير الرسمية لتعطيل فتائل تفجير الوضع الأمني كما وسعيها لتوفير السلع الأساسية وفي طليعتها المحروقات والدواء وتوفيرها للسوق والاستهلاكي بوسائلها الخاصة.