بمجرّد أن أبحرت من إيران باتجاه لبنان، أو حتّى قبل ذلك، خطفت "باخرة المازوت الإيرانية" كلّ الأضواء، لتصبح وفقًا لدعابة راجت عبر وسائل التواصل الاجتماعي، إلى ثاني أشهر باخرة في تاريخ العالم بعد سفينة "تيتانيك" الذائعة الصيت، حتى إنّ كثيرين أطلقوا "صافرات الإنذار" إيذانًا بـ"حرب" قد تأتي بها الباخرة الموعودة.
لعلّ "فتيل" هذه الحرب "الموهومة"، أو المفترضة، تمثّل في خطاب الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصر الله، في مناسبة ذكرى عاشوراء، حيث أعلن عن اقتراب وصول الباخرة المحمّلة بأطنانٍ من المحروقات، مع أولوية للمازوت، على أن تتبعها سفن أخرى، وذهب لحدّ اعتبارها "أرضًا لبنانيّة"، في رسالةٍ "مشفّرة" إلى الأميركيّين والإسرائيليّين، فُهِم منها رفض التعرّض للسفينة الآتية تحت أيّ ظرفٍ من الظروف.
لكن، ما إن أنهى نصر الله خطابه، حتى توالت "الردود" عليه، ردود "أفرغت" العنوان "المعيشي" من مضمونه، لصالح جرّ لبنان إلى "مغامرات غير محسوبة" لا طائل منها، انطلاقًا من أنّ وصول الباخرة الإيرانية إلى الشواطئ اللبنانية وتفريغ حمولتها، سيشكّل "انتهاكًا" للعقوبات الأميركية المفروضة على طهران، وسيتحمّل لبنان الرسمي والشعبي تداعيات ذلك، بحصارٍ جديد لن يكون أحد قادرًا على تحمّل تبعاته.
هكذا، انقسم الرأي العام إزاء "باخرة المازوت الإيرانية" قبل أن تُبحِر باتجاه لبنان، وأن يُعرَف "خيرها من شرّها"، إن جاز التعبير. يقول المعارضون، الذين "استنفروا" للردّ على نصر الله خلال فترة وجيزة وربما قياسية، إنّ خطابه هو بمثابة "إعلان حرب"، ليس على الولايات المتحدة فحسب، ولكن على الشعب اللبنانيّ برمّته، الذي يريد "كسب رضا" المجتمع الدولي عشيّة تأليف الحكومة، لا "معاداته"، وقطع الطرق على المساعدات الموعودة.
يتحدّث هؤلاء عن "محاذير قانونية" بالجملة ستترتّب على وصول "باخرة المازوت الإيرانية" إلى لبنان، استنادًا إلى ما يردّده الخبراء في القانون الدولي، طالما أنّ الدولة لم تقدّم طلبًا مبرَّرًا ومعلَّلاً لـ"إعفاء" لبنان من العقوبات على إيران، ما من شأنه تعريض لبنان نفسه للعقوبات، الأمر الذي سينعكس تلقائيًا على حركة التحويلات والاعتمادات والشحن من لبنان وإليه، بحيث تُمنَع المؤسسات المالية العالمية من التعاون معه.
في المقابل، "يستنفر" المقرّبون من "حزب الله"، أو المتحمّسون لباخرة الوقود الإيراني، وبينهم للمفارقة بعض المناهضين للحزب، للردّ على منطق "المعارضة"، حيث يسألون عن "البديل"، وما إذا كانت "طوابير الذلّ"، والتي زادت عن حدّها في الأسبوع الأخير، لدرجة اصطفاف المواطنين لساعاتٍ أطول من الطويلة، من أجل الحصول على "فتات" البنزين الذي يسمح لهم بالتنقّل، هي ما يريده المتمسّكون بالسيادة.
ويسأل هؤلاء عمّا إذا كانت البلاد قادرة على "الصمود" أكثر بغياب أيّ مقوّمات لذلك، مع نفاد مادة المازوت، وهو ما أدّى إلى إقفال الكثير من القطاعات الحيوية، وتهديد قطاعات أكثر حيوية، على غرار المستشفيات، التي باتت تعيش على طريقة "كل يوم بيومه"، بانتظار المساعدات التي من شأنها حماية حياة المرضى لديها، الذين باتوا في "خطر الموت الفوري" بمجرد انقطاع مادة المازوت نهائيًا، وهو ما يبدو "سيناريو" أكثر من وارد.
من هنا، يفترض المتحمّسون لإعلان السيد نصر الله أنّ أيّ شحنة وقود تصل إلى لبنان، من أيّ مكانٍ أتت، ينبغي أن تكون محلّ ترحيب وإجماع، لعلّها تنجح في تخفيف "العبء الثقيل" على اللبنانيّين، الذين ما عادوا قادرين على الصبر والصمود أكثر، والذين لا تعنيهم "لعبة المحاور" وصراعات الدول فيما بينها، ولا يريدون من الدولة سوى القيام بالحدّ الأدنى الذي يتيح لهم تسيير أعمالهم، مع الحفاظ على الكرامات.
أكثر من ذلك، ينتقد هؤلاء المتحمّسون خصومهم الذين أمضوا أيامًا طويلة "يسخرون" من الحديث عن الباخرة الإيرانية، ويسألون أين أصبحت، فإذا بهم "يستنفرون" بمجرد شعورهم أنّ "ساعة الجد" قد وقعت، بما يذكّر بـ"الازدواجيّة" التي يتعاطون بها مع تحرّكات "حزب الله" الحدوديّة، فيسجّلون عليه ما يعتبرونها "مهادنة" مع الإسرائيليّ، ويصوّبون عليه بمجرّد قيامه بأيّ عمليّة ردًا على غارات إسرائيليّة.
لكنّ لخصوم "حزب الله" ردّهم على هذا الخطاب "الوجداني والانفعالي" كما يقولون، فلبنان ليس ساحة مستباحة، وهناك دولة وقوانين لا بدّ من المرور من خلالها. يؤكّدون أنّ الإذلال مرفوض ولا أحد يرتضيه، ولا ينكرون أنّ أزمة الوقود قد تكون "مفتعلة"، كما قال السيد نصر الله، وأنّ المشكلة الحقيقية هي في "المحتكِرين" الذين يجب فضحهم ومحاسبتهم، لكنّ التصدّي لذلك لا يمكن أن يكون على طريقة "حزب الله" برأيهم.
يلفتون إلى أنّ أزمة الوقود "المفتعَلة" يتسبّب بها كذلك "التهريب" النشط إلى سوريا، والذي يُتَّهَم "حزب الله" نفسه بالوقوف خلفه، علمًا أنّ مقرّبين منه ومحسوبين عليه، لم يتردّدوا في "تبرير" هذا النهج واعتباره "فعلاً مقاومًا"، قبل موقف السيد نصر الله الأخير المعارض له. أما حلّ الأزمة، فيبقى ممكنًا بالطرق الشرعيّة، علمًا أنّ الأزمة لم تصل إلى هذا الحدّ، إلا بعد قرار حاكم مصرف لبنان رفع الدعم، ورفض "العهد" التطبيع معه.
في المحصّلة، يقول "حزب الله" إنّ الباخرة الإيرانية الموعودة هي "هديّة" للشعب اللبناني بأسره، وليست لفئة دون أخرى، وأنّها تأتي لـ"فكّ الحصار"، فيما يقول خصومه ومعارضوه إنّها "حصار إضافيّ" على الشعب، بل جرّ للبلاد إلى "حرب" غير محسوبة. وبين المنطقين "المتناقضين"، يبقى الأكيد أنّ اللبناني "المُحبَط واليائس"، سئم من المشاحنات التي لا تعنيه، ولا يريد سوى نهاية للذل الذي يعيشه، ويقف إزاءه بلا حول ولا قوة!.