لم يخرج اللبنانيون ولا حكّامهم بعد من التقليدية ولذّة التدمير السادي في سلوكهم الوطني. ليس هناك سوى الفشل أو التفشيل من داخل والعجز المدروس عن التحكّم بالواقع عبر تأليب لمجموعات لا تنتهي حزبيّة أو تجمّعات مرتجلة فقيرة وجمعيات ممولة ومرجعيات مشتّتة بمعظمها تابعة لطوائفها وثرواتها و/أو تابعة للخارج بما جعل لبنان أموذج الدولة المتلاشية التي يتآكلها الفاسدون وتجتاحها الديون والخلل الهائل في ميزان المدفوعات، لكنها المعلّقة والفاشلة التي يتسابق الجميع في نهب بقاياها وتصفيتها والدفع لمزيدٍ من تشظّيها بين المجموعات المتنافرة بصفتها أدوات مسرحية للإنهيار والجرائم التي لا يحوقها الإعلام.
قد يعسر هضم صفة "دولة فاشلة" لكنّ لبنان "الدولة الفاشلة" المُدرجة في أسفل درجات السلّم العالمي. تلك التسمية المعمّمة والشائعة في التعبير حقيقة وتصيب مقتلاً في الصميم. لماذا؟ لإستحالة التوفيق بين الفشل العظيم والرغبة الجامحة بالتغيير المتجرجرة بالتظاهر وقطع الطرقات واشعال الحرائق وغيرها من ردود الفعل التي تجعلك ترى الناس خارج الكفة الثانية من الميزان.
لايمكن تقييم تلك المواقف والتحركات والإنهيارات الشاملة التي لم تُفض إلى إسقاط حجرٍ من هذا الجدار الصلب في منظومة الحكم الصلبة، وكلّ ما يرشح من اهتمام الدول الأخرى بنا لم يدفع خطوةً نحو الأمام. إنّ اللبنانيين أمام جدارٍ يتجاوز جدار الصين بصلابته أو جدار برلين.
لو تأمّلنا إنهيار جدار برلين العلامة الفارقة في متغيرات قلبت العالم ، فإنّنا لن نجد لا مدافع ولا دبابات أو طائرات صبّت حممها فوق هذا الجدار لتُورث قتلى وجرحى أو كوارث أسقطت خطّ تقسيم برلين بعد الحرب العالمية. نجدّ معاول ومطارق وإرادات وتحرّكات شعبيّة قفزت بأغانيها وحماستها فوق الجدار فأسقطته بيديها وأصابعها.
وأظافرها وأسنانها وهشّمته طلباً للحريّة اللامعة في الطرف الغربي من أوروبا. ألم تبق أوروبا الشرقية سجينة المنظومات الحاكمة تتأهّب خلال قرنٍ من التمتمة والعجز والخوف بإستخدام القدرات العقلية الذكيّة ووسائل الإعلام كسلاح في هذا الإطار؟ هكذا برزت الوحدة في الحركة شعبية وكأنّها أقوى من جيوش العالم كلّه وأشرس من الأسلحة الفتّاكة بعد العزلة والخوف والقلق وعدم الإستقرار والرغبة في التوحّد.
اللبنانيون في لبنان آخر لأنّ جدراناً ترتفع بينهم وبين دول الإقليم في عصر إنهيار الجدران والحواجز. كلّ يوم يعيشون ملامح "الدولة اللبنانية الفاشلة" ونصائح خلاصهم فقط عبر أهلها وحكّامها تتكرّر على ألسن سفراء أوروبا والعالم. بالمُقابل، تتكوّم الخرائب والحرائق والمجاعات والقهر لبقاياهم من جماهير الأحزاب الطائفية التي نخر قادتها العرب والعالم بحثاً عن مخارج بقيت موصدة.
" ما عليكم أيّها اللبنانيون سوى الإعتماد على أنفسكم"، كلمات لا معنى لها في زمنٍ تنشغل كلّ دولةٍ بنفسها فتبدو السياسة الدولية سياسة إذكاء التآكل والإنهاك وزجّ الجميع في صراعات الى حدود تأزيم المواطنين فيها ودفعهم الى الإنصياع الكامل لإرادات الدول الكبرى ومؤسساتها المالية والإقتصادية الكبرى. يتعاظم الموت والقلق وتُفرغ الجيوب والمخازن عندنا إلى الحدود التي لا يمكن كتابتها أو تحمّلها، وقد صار المطلوب والمُعلن إنتظار الجيوش البعيدة لتخليص لبنان من حكّامه، ولكن لا يصل أو يتحرّك سوى الخبراء المتعددي الجنسيات وفقاً لمفهوم صناعة أو إعادة تقييم الوظائفية والأوضاع الجديدة أو الحديثة التي بلغتها للدول الفاشلة ووضع التقارير السخيفة بشأنها. إننا في لبنان لا نرى سوى بلد يتمايل قاطنوه بين التشييع اليومي والتخريب اليومي ونرى شرائح منهكة متنوعة المذاهب والأعمار والطوائف تتلاقي بصفتها من حاملي الهويّة واحدة لكنها المسكونة بالإنتفاض والرفض والقمع بالقوة وكأنّ الدولة صارت مهددة بالضياع والتفكيك.
هناك مصطلحان خطيران يندرج تحتهما كلّ ما نراه ونكتبه في لبنان،هما الإخضاع الداخلي والإخضاع الخارجي بما لا يقتل الدولة اللبنانية أو يلغيها بل يحوّلها الى خانة "الدولة الفاشلة" المثال أو الدولة المريضة بأهلها وبحكّامها لذا هي في أسفل السلّم الدولي وفق تصنيفات المؤسسات الدولية الأخيرة التي تتّخذ أرقامها ونسبها وجداولها
واستراتيجياتها نحو قيادة الفشل. ولا يعني تعبير قيادة الفشل بالضرورة النجاح في الخروج من تحت الأرض، بل الى المزيد من الضياع والهلع والجهوزية لإمكانيات التحلّل والتخريب والتأليب القادمة بعد، وتصبح أداة ثمينة أو كما قطع الغيار المفككة عبر خطوات تنفّذ ببطء وتثاقل شديدين لتجعل المواطنين يذهبون للرفض والتظاهر أو للنوم والندم لكنهم يستيقظون فيجدوا دولتهم بسلطاتها وزعمائها لا تنام إلاً في قبضات غريبة نهائياً وهم باقون في بلدٍ لم يعرفونه ولن يألفونه. لماذا؟ لأنّ لبنان القديم قد مات ولم يُصدق أحد من اللبنانيين بعد بأنهم أمام نعوشهم.