صُعقت الإدارة الأميركية فور الإعلان عن خبر انطلاق الباخرة المحملة بالمواد النفطية اللازمة من موانئ إيران باتجاه الشواطئ اللبنانية، كما أن الخبر أصاب العدو الإسرائيلي بالصدمة والارتباك وخصوصاً بعدما أطلق سيد المقاومة تحذيره من التعرض للسفينة واعتبارها قطعة من الأرض اللبنانية ومن ضمن السيادة الوطنية، ما يعني دخولها معادلة الردع القائمة وإلقاء الحرم على أي اعتداء أو اعتراض أميركي أو إسرائيلي على الأرض اللبنانية في عرض البحر مع الجزم بحتمية الرد.
لا ننكر نجاح الإدارة الأميركية وأعوانها في الإيغال بحربها اللا إنسانية على لبنان وسورية وبوضع شعب البلدين في خضم حرب هي أخطر من أي مواجهة عسكرية لأنها الحرب التي خطفت إرادة المجتمع وامتهنت كرامة ومبادئ ومعتقدات الإنسان ومسّت وجوده وسلبت حقه في الحياة الكريمة لتحل على شعوبنا مأساة إنسانية حياتية لم نكن نتوقعها.
وبالنظر للأهمية الإستراتيجية لقرار قيادة المقاومة اللبنانية بكسر واختراق الحصار الأميركي الإسرائيلي الخليجي المفروض على لبنان وشعبه، بيد أن الأهم هو انقلاب المعادلة التي كانت سائدة حيث إن المقاومة بقرارها أظهرت عن الوجهة الجديدة للصراع كما أنها برهنت وبالدليل القاطع عن امتلاكها عناصر القوة التي تخولها رفع الكارت الأحمر بوجه الاستبداد الأميركي الإسرائيلي وبأنها صاحبة المبادرة التي تمكنها من جر الأميركي والعدو الإسرائيلي إلى حلبة المواجهة واختيار نوعها حسب الزمان والمكان المناسبين.
مما لا شك فيه أن قرار سيد المقاومة هو قرار محسوب بدقة متناهية لأن سماحته لا يعلن عن أي قرار مهما كان سهلاً إلا بعد دراسة مفصلة ومعمقة وشاملة تأخذ بالحسبان عوامل التوقيت والتأثيرات والانعكاسات السلبية منها والإيجابية التي يمكن أن تنجم عنه، فما بالك بقرار بحجم كسر هيبة وإرادة الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها المشاركين في حصار لبنان .
صحيح أن قرار قيادة المقاومة وفي هذا التوقيت يأتي بهدف كسر الحصار والاحتكار ولأجل تحرير حياة وكرامة وإرادة الشعب من التحكم الأميركي، هو قرار بمواجهة الحرب الاقتصادية اللئيمة المفروضة على لبنان، ويمكن وصفها بحرب التجويع والإذلال والامتهان المتعمد لكرامة شعب بأكمله تمهيداً للوصول إلى كيّ وعي المجتمع وتفكيكه وتغيير سلم أولويات المواطن ونمط تفكيره، إضافة إلى صرف انتباهه عن القضايا الوطنية وإلهائه في البحث المتواصل عن السبل المتاحة لتأمين لقمة العيش بعد تقصد أميركا وعملائها في المنطقة وفي الداخل إلى احتكار وحجب متعمد للمواد النفطية الأساسية، ناهيك عن فقدان الدواء والاستشفاء والكهرباء والماء فترى الناس سكارى وما هم بسكارى.
يأتي قرار سيد المقاومة في ظل غياب دولة فاعلة ومسؤولة في لبنان وساحة متروكة لمافيا الاحتكار أوكلت إليها مهمة تنفيذ الحصار الأميركي والتلذذ بعذاب وإهانة الناس، وبعد فشل كل الوسائل المتاحة لإيجاد متنفس يخفف من معاناة المواطنين الأمر الذي بلغ مستوى الخطوط الحمراء التي تهدد بالانفجار الاجتماعي وبضرب وتفتيت كل المكونات المحاصرة.
القرار باستجلاب المواد النفطية من إيران من شأنه أن يؤول إلى كسر الغطرسة الأميركية وهو قرار مسؤول لأنه يحمل أبعاداً إستراتيجية محسوبة ولأنه يشكل الكاسر لأمواج الإملاءات الأميركية ويمكن اعتباره ناسفاً للقواعد التي فرضتها الإدارة الأميركية، ولا شك أن القرار أسهم بنقل المجتمع من حال الحصار إلى حال التحرر الأمر الذي يضعنا أمام حتمية التحوّل إلى معادلة جديدة ومتقدمة في الشكل وأشمل في المضمون.
في حرب تموز 2006 كانت مفاجأة سماحة السيد نصر اللـه إستراتيجية بالمعنى العسكري تمثلت بخبر تمكن المقاومة من إصابة وإحراق باخرة العدو الإسرائيلي ساعر 5 التي قصفت بيوتنا وهدمت الأبنية السكنية في بيروت والضاحية الجنوبية فأطلق نصر اللـه عبر المذياع بشرى النصر قائلاً انظروا إليها أنها تحترق في عرض البحر.
اليوم أطلق سماحته مفاجأة تتعدى مفاجأة 2006 لأنها أشمل وذو أبعاد اقتصادية وعسكرية وردعية إستراتيجية من الوزن الثقيل ولأنها انتقلت بنا من مرحلة الدفاع إلى مرحلة الهجوم، والهجوم هنا ليس بغرض البدء بحرب عسكرية مع العدو بقدر ما هو بغرض القول لأميركا وأعوانها لا بحجم أنين شعب يواجه الجحيم والإذلال نتيجة الحصار الأميركي المفروض على شعبنا، فكانت مفاجأة سيد المقاومة للعام 2021 حين قال إن سفينتنا المحملة بالمواد النفطية ستبحر من إيران خلال ساعات انظروا إليها إنها تخترق الحصار الأميركي الجائر.
هي المفاجأة التي جعلت من المستحيل ممكناً ومن الحصار فرصة للتحرر من الغطرسة الأميركية مفاجأة بددت كل الأوهام وقلبت المعادلة بالكامل وأثبتت بأن إرادة الأميركي ليست بالقدر المحتوم علينا.
مفاجأة سيد المقاومة تعني «كفى» تحكماً بثرواتنا وسرقة مستقبلنا والتلاعب بمصير وحياة شعبنا ونحن قررنا أخذ المبادرة بالهجوم لكسر الحصار المفروض علينا وبأننا قررنا تأميم ثروات بلدنا وأن نوقف مهزلة إذلال شعبنا وأن ندافع عن الحقوق الإنسانية لشعبنا لأنه شعب يستحق العيش بكرامة الإنسان.
بين تحترق وتخترق نقطة لكنها نقطة تحول في مسار الصراع مع أعداء الأمة ونقطة تحول في مستقبل شعوبنا وأجيالنا ونقطة تحول من الاستعباد والاستعمار إلى التحرر من الإملاءات الأميركية الغربية بالمعنى الإستراتيجي ونقطة تحول في تقرير مصير الشعوب والأجيال المتمسكة بالكرامة وبالعزة الوطنية والإنسانية.
إن قرار سيد المقاومة أعاد إلينا أمجاد قادة القومية والتحرر فالإعلان عن كسر الحصار المفروض على لبنان يوازي بمفاعيله الإستراتيجية قرار الزعيم جمال عبد الناصر التاريخي بتأميم قناة السويس عام 1956.
إن إعلان السفيرة الأميركية في لبنان دوروثي شيا عن السماح باستجرار الغاز من مصر إلى لبنان عبر الأردن وسورية والسماح بتزويد لبنان بالكهرباء من الأردن هو إعلان الإدانة بعينها لأن مثل هذا الإعلان أماط اللثام عن حرب أميركية لئيمة تمارس ضد لبنان وسورية وحرمان شعب البلدين من كل مقومات الحياة الكريمة وبقرار أميركي أحادي لا أخلاقي ولا إنساني.
بين تحترق وتخترق مسيرة عزم وتصميم ومسيرة دماء شهداء غيرت مسار التاريخ وفعل إيمان بالحق وخيار إستراتيجي بأن نكون أو لا نكون وبأننا سنكون.