تعُود البدايات الأُولى لمشروع "سدّ الأَلفيّة"، أَو "سدّ النّهضة" الإِثيوبيّ الكبير، كما يُعرف الآن، إِلى عُقودٍ طويلةٍ سالفةٍ، وتحديدًا إِلى مُنتصف القرن الماضيّ، بين عامَيْ 1956 و1964، حين أَجرى "مكتب الولايات المُتّحدة لاستصلاح الأَراضي" مسحًا شاملًا للنّيل الأَزرق، لتحديد أَنسب الأَماكن لإِقامة سدٍّ ضخمٍ، في زمان رئيس الوزراء الإِثيوبي أَكليلو هابتي ولد، وتحت حُكم الإِمبراطور هيلا سيلاسي، آخر الأَباطرة الإِثيوبيّين. وكان مِن المُخطّط له آنذاك، أَن يُمَوَّل السدُّ الكبير بواسطة الولايات المُتّحدة ومُؤسّسات التّمويل الدّوليّة، ولكن هذه الخطط تعطّلت فجأةً، إِثر انهيار الملكيّة الإِثيوبية بعد الانقلاب في العام 1974، لتسقُط إِثيوبيا بعد ذلك، في حقبةٍ طويلةٍ مِن الحُكم العسكريّ المدعوم مِن "السّوفيات". وعلى مدار العُقود التّالية، انزوى مشروع "سدّ النّهضة"، وخفت بريقه في شكلٍ ملحوظٍ. ويرجع ذلك في شكلٍ أَساسيٍّ إِلى أَنّ أَديس أبابا الفقيرة، لم تكُن تملك أَيّ موردٍ يُمَكِّنها مِن بناء المشروع الضّخم بنفسها... وفي المُقابل، فإِنّ مصر، دولة المصبّ الرّئيسيّة، والقوّة الأَبرز في حوض النّيل-وحُلفاءَها الغربيّين... لم يكونوا ليسمَحُوا بالسّيطرة على حوض النّيل بواسطة سدٍّ ضخمٍ مُموّلٍ مِن الاتّحاد السُّوفياتيّ. وعلى رُغم ذلك فإِنّ طموح الإثيوبيّين للسّيطرة على النّيل وإِحساسهم التّاريخيّ بالمظلوميّة والحرمان من استغلال مواردهم المائيّة، لم يخفت أَبدًا، وأَصبحت مسألة استغلال الموارد المائيّة وبناء السدّ–الحُلم، إِحدى القضايا القليلة الكفيلة بتوحيد الشّعب الإِثيوبيّ المُمزَّق بسبب النّزاعات العِرقيّة والطّائفيّة. وفي ما يبدو، فقد كان "ملس زيناوي"، الّذي وصل إِلى السُّلطة في أَديس أَبابا بعد الإِطاحة بالحُكومة العسكريّة مطلع التّسعينيّات، يدرك هذه الحقيقة جيّدًا... لذا فإِنّ زيناوي، الّذي يُعرف اليوم بأَنّه "مُهندس الصُّعود الاقتصاديّ لإِثيوبيا، نسج جزءًا كبيرًا مِن رؤيته الاقتصاديّة والتّنمويّة في شأن استغلال موارد البلاد المائيّة، بهدف تحويلها إِلى مركزٍ إِقليميٍّ للطّاقة، عبر إِقامة عددٍ مِن السُّدود الضّخمة على أَحواض 12 نهرًا تشقّ الأَراضي الإِثيوبيّة لتغذية دُول الجوار بالمياه.
سُدودٌ أُخرى وخَيْباتٌ
لقد كانت البداية في العام 2002 مع "سدّ تكيزي" الّذي شُيِّد على نهر "عطبرة"، أَحد روافد نهر النّيل، بتكلفةٍ بلغت 224 مليون دولار، وانتُهي منه بالفعل في العام 2009، ولكنّه لم يُثِر قدرًا كبيرًا مِن المُشكلات بسبب انخفاض السّعة الإِجماليّة للمياه الّتي يحتجزها السدّ (تبلغ سعته نحو 9 مليارات متر مُكعب فقط)، على رغم أَنّه احتجز ما لا يقلّ عن 30 في المئة مِن الطّمي الّذي كان النّيل يحمله إِلى الأراضي المصريّة مُتسبِّبًا في انخفاض خُصوبتها. ولاحقًا نجحت أديس أبابا في توقيع عُقودٍ مبدئيّةٍ لبناء 5 سدود أُخرى، على رأسها سد "جايب 3" على نهر "أُومو" بتكلفة 1.6 مليار دولار، وهو السدّ الّذي كاد يُثير أَزمةً سياسيّةً كبيرةً بين إِثيوبيا وكينيا، بسبب تأثيره المُحتمل على تدفُّق المياه من نهر "أُومو" إِلى بُحيرة توركانا الكينيّة. تأثيرٌ تأكّد بالفعل بعد رصد مُنظّماتٍ دوليّةٍ مُستقلّةٍ في العام 2017 انخفاض مُستوى المياه في البُحيرة الكينيّة مُقارنة بمُستوياتها السّابقة قبل إِقامة السدّ.
المشروع إكس
وظلّ "سدّ النّهضة"، أَو المشروع "إِكس" كما كان يُلقَّب في الأَروقة الرّسميّة، يُمثِّل تحدّيًا مِن نوعٍ خاصٍّ بالنّسبة إِلى أَديس أبابا، ويرجع ذلك إِلى عوامل عدّة، وفي مُقدّمتها التّكلفة الكبيرة للسدّ، المُقدَّرة مبدئيًّا بـ 5 مليارات دولار (نحو 6 في المئة مِن النّاتج المحليّ الإِجماليّ لإِثيوبيا في العام 2018)، وهو مبلغٌ يتعذّر جمعه عبر طُرق التّمويل التّقليديّة، وبخاصّةٍ في بلد صُنِّف كأَحد أَكبر المُتلقّين للمُساعدات الدّوليّة في أَفريقيا خلال العقد الأَوّل مِن الأَلفيّة، وقد خسر الإثيوبيّون الكثير مِن الأَموال، خلال الفترة نفسها، بسبب التدفُّقات الماليّة غير المشروعة، أَي حركة الأَموال في شكلٍ غير شرعيٍّ إِلى خارج البلاد، أَسواء بسبب أَنشطة غسيل الأَموال، أَو الملاذات الضّريبيّة، ناهيك بكون احتياطاته مِن النّقد الأَجنبي كانت تكفي بالكاد لتغطية تكاليف شهرَيْن اثنَين فقط مِن الواردات، وَفق بيانات العام 2012. أَضف إلى ذلك الأَبعاد السّياسيّة والأَمنيّة الكبيرة المُرتبطة ببناء السدّ، وتأثيره المُؤَكّد في أَمن مصر المائيّ، ومركزيّة منطقة حوض النّيل بالنّسبة إِلى الكثير مِن القوى الغربيّة، هو ما يعني أَنّ مِن الطّبيعيّ أَن تحشد القاهرة كُلّ نُفوذها السّياسيّ والاقتصاديّ، بما في ذلك علاقاتها "المُميّزة" مع الغرب، لمنع السدّ مِن أَن يُصبح حقيقةً واقعةً عبر إِعاقة تمويله في المقام الأَوّل. وكان ذلك يعني أَنّ على إِثيوبيا أَن تبحث عن طُرقٍ غير تقليديّةٍ لتمويل مشروعها الحُلم... وللمُفارقة، فإِنّ التّكتيكات الّتي استخدمتها أَديس أبابا للتغلُّب على هذه العقبات، السّياسيّة منها والاقتصاديّة، تمّت محاكاتُها من كِتاب "اللعب المصريّ"، حيث يتشابه النّهج الّذي اتّبعته إِثيوبيا لتمويل سدّ النّهضة في شكلٍ ملحوظٍ مع الطّريقة الّتي استخدمتها مصر لتمويل مشروع السدّ العالي في أَسوان جنوب البلاد قبل بضعة عُقودٍ.
مُعضلة التّمويل
وعلى مدار عُقودٍ، كان تمويل المَشروعات الكُبرى في أَفريقيا مِن خلال صُندوقٍ وطنيٍّ يُمثِّل تحديًا كبيرًا، سواء بسبب النّقص الطّبيعيّ في الموارد الماليّة للبُلدان الأَفريقيّة، أَو بسبب سياسات إِهدار الأَموال الّتي تبنّتها الدّيكتاتوريّات الفاسدة في القارّة، ونتيجةً لذلك كانت آليّة التّمويل المُعتمدة للمشروعات الضّخمة هي المُساعدات الخارجيّة والقُروض الّتي تُقدِّمها المُؤسّسات الماليّة الدّوليّة وعلى رأسها البنك الدّوليّ، ولكنّ هذه الأَموال غالبًا ما كانت تأتي مع شُروطٍ وإِملاءاتٍ سياسيّةٍ، وهو ما أَدركته مصر في وقتٍ مُبكرٍ مِن مساعيها للحُصول على التّمويل اللازم لبناء السدّ العالي، المشروع الأَكثر أهميّةً على أَجندة الحُكومة النّاصريّة!.