بعد ان تأكد لأميركا ان عدوانها على سورية ومحور المقاومة فشل في تحقيق أهدافه بعد حرب كونية اعتمدت "استراتيجية القوة العمياء" التي تقوم على الإرهاب والتدمير، انقلبت في العام ٢٠١٨ الى العدوان الانتقامي الاجرامي بالحرب الاقتصادية التي عولت عليها لمنع مكونات محور المقاومة من استثمار الانتصار وإطلاق عملية إعادة البناء لا بل وترمي الى التجويع والتركيع وتفجير المجتمعات من الداخل لتحيل الانتصار الذي تحقق الى جثة لا روح فيها. وبذلك تنتقم اميركا ومن معها في الإقليم ممن منعها من النجاح والانتصار والحق بها هزيمة استراتيجية ستتوالى ارتداداتها السلبية على أميركا وموقعها وعلاقتها الدولية لزمن ليس بالقصير.
وفي إطار العدوان الاميركي بالصيغة الجديدة اعتمدت اميركا "قانون قيصر" لتحاصر سورية في إطار ما تسميه "عقوبات” أميركية ضدها ٫ اما لبنان فقد وضعت لتدميره واسقاط مقاومته ما اسمي "خطة بومبيو" ذات المراحل الخمسة التي تبدأ بالفراغ السياسي وتنتهي بعدوان اسرائيلي ضد المقاومة يعول عليه لتفكيك هذه المقاومة ونزع سلاحها في حرب تكون مسبوقة بدفع لبنان الى الانهيارات الثلاثة المالي والاقتصادي والأمني.
كان الاطمئنان الاميركي لنجاح خطة تدمير لبنان الخماسية المراحل شبه تام خاصة وأنها اتكلت في تنفيذها على لبنانيين يتولون مقاليد الدولة العميقة في كل مفاصلها السياسية والإدارية والمالية والاقتصادية والدينية، وهي تملك سيف إرهابهم بفرض العقوبات عليهم ومصادرة أموالهم التي نهبوها من خلال توليهم السلطة والهيمنة في تلك الدولة.
وبالفعل كان لأميركا ما تريد عندما وضعت "خطة بومبيو" موضع التنفيذ في ربيع العام ٢٠١٩ عندما جاد وزير خارجيتها آنذاك جورج بومبيو الى لبنان لأطلاقها والتقى تباعا بكل "الأشخاص اللبنانيين القياديين " الموكل إليهم امر تنفيذها، وفي هذا الإطار كانت استقالة سعد الحريري في خريف العام ٢٠١٩ إثر "ثورة الست سنتات على "الواتس اب " وما تبعها من اغلاق المصارف وحبس اموال المودعين وتتالي الانهيارات التي اكدت ان المراحل الثلاث الاولى من خطة بومبيو تتحقق بنجاح.
امام هذا الواقع أدركت المقاومة انها تتعرض لحرب من نوع جديد وأنها امام تهديد جدي، او بشكل ادق امام حرب شاملة عليها وعلى بيئتها وكل من يرى فيها سيفاً للدفاع عن لبنان وحقوقه، تهديد لا يتعلق بموقع او ملف عابر، بل تهديد وجودي يتصل بأصل وجودها واستمرارها تهديد يتمثل في هجوم تنخرط فيه مواقع دينية وسياسية واقتصادية ومالية وإعلامية وفكرية، تهديد يكاد يكون في صيغته وحجمه وتعدد عناوينه غير مسبوق منذ ان نشأت.
هذا التهديد الزم المقاومة بوضع خطة دفاع متكاملة ومتدرجة تعتمد مبادئ الاحتواء والتعطيل حينا وقواعد إطلاق البدائل حينا اخر والبقاء على اتم الجهوزية العسكرية والميدانية في كل المراحل والحالات ومن هنا كان موقف المقاومة حيال الفراغ السياسي حيث انها تمسكت بحكومة سعد الحريري في خريف ٢٠١٩ ورفضت استقالتها لكنها لم تستطع الإبقاء عليها لان الحريري كان ينفذ خطة موضوعة ويقوم بما طلب منه في اطارها. كما انها رفضت استقالة حسان دياب وتمسكت به فلم تستطع ابقاءه امام الضغوط التي فرضت عليه، وقدمت كل التسهيلات في سبيل
إنجاح مصطفى اديب ثم سعد الحريري ثم نجيب ميقاتي في تشكيل الحكومة لأنها لم توفق حتى الان في مسعاها لان القرار الاميركي بالفراغ الأمني كمرحلة مفتاحية من مراحل خطة بومبيو لا زال ساري المفعول وسيبقى تشكيل الحكومة الجديدة متعذرا طالما ان القرار هذا مستمر وطالما ان اميركا تدرك بان تشكيل الحكومة يعني نقض للفراغ السياسي والشروع بوقف او افشال خطة بومبيو.
بيد ان المقاومة التي ليس بيدها امر التشكيل ولا يعود اليها القرار به تجد نفسها من غير اقتدار على معالجته، فأنها في الوقت عينه تجد نفسها قادرة على افشال الخطة الاميركية من أبواب أخرى. منها الامن والاقتصاد وطبعا التصدي لإسرائيل.
وفي حين قام المولوجون بتنفيذ خطة بومبيو بأكثر من استفزاز وتحرش لأحداث التفجير الأمني في أكثر من مكان وموقع على الأرض اللبنانية، لم يكن اخرها حوادث الجية وخلدة وشويا فان المقاومة تعاملت مع الاحداث تلك بصبر وروية مع احالة الامر لصاحب الصلاحية القانونية في المعالجة أي الدولة وتمسكت بشعار ان الامن مسؤولية الدولة مع الإبقاء على جهوزية تمكن من الحسم إذا وصلت الامور الى محل لا يبقى متاحا للدفاع عن النفس الا طريق واحد هو الفعل الشخصي.
اما على الصعيد الاقتصادي والمالي فقد وقفت المقاومة على حقيقة مرة هي ان اللبنانيين بأنفسهم وفي ظل منظومة الاحتكار والسيطرة والهيمنة والفساد والوكالات الحصرية هم من قاد البلاد الى الانهيارين المالي والاقتصادي وأنتج بيئة العوز والفقر والجوع، وبادرت الى فعل من شانه ان يخط شعار كسر الحصار الاميركي ويفتح ابوابا للبنان لا تستسيغ ولا تتقبل اميركا فتحها لما فيها من انقلاب استراتيجي على صعيد الاقتصاد اللبناني.
لقد كان قرار المقاومة باستيراد النفط الايراني رغم ما تفرضه اميركا عدوانا على ايران بما تسميه العقوبات ، كان هذا القرار فعل تحدي و شجاعة و قوة يفهم اميركا و من معها بان هناك بدائل للطرق التي تقطعها ، و يكون وظيفة قرار المقاومة بشان النفط و استيراده من ايران ليس تامين كل احتياجات لبنان من النفط و هو امر يفوق طاقات المقاومة و يبقى في الأساس مسؤولية الدولة و المقاومة لم تدع يوما بانها ستحل محل الدولة ، بل يكون القرار كسرا لحصار أميركي و افهام اميركا ان المقاومة القادرة في الميدان عسكريا للدفاع عن لبنان و عن نفسها هي قادرة على إيجاد البدائل التي تعطل مفاعيل حصارها .
و هكذا تكون المقاومة التي تفلت حتى الان من محالات جرها الى الفوضى و الانهيار الأمني ، و التي تبادر لكسر الحصار و التخفيف من سلبيات الانهيار المالي و الاقتصادي و مع البقاء في اعلى جهوزيتها و قوتها العسكرية تكون قد أرسلت رسالة قوية لكل من يعنيه امر خطة بومبيو تخطيطا و تنفيذا و نتائج ، مفادها ان الخطة فاشلة و ستضيف الى الفشل الاميركي في الحرب الكونية على المقاومة فشلا اخر لأنها لن تصل الى تحقيق مبتغاها بشان المقاومة ولن تفتح الطريق امام إسرائيل لشن عدوانها و تفكيك المقاومة خاصة بعد ان تلقت الرسالة من مزارع شبعا بتثبيت قواعد الاشتباك التي تحمي لبنان و مقاومته.
و مع هذه الحقيقة الايجابية يبقى هناك سلبيات تتصل بمعاناة الشعب اللبناني الذي لا تعبأ اميركا به بل فرضت عليه الوقوف بطوابير الذل امام محطات المحروقات و الصيدليات الخ ... و الاكثر ايلاما في هذا المشهد ان من ينفذه
على ارض الواقع هم لبنانيون ممن ارتهنتم اميركا و هددتهم بنفوذهم و أموالهم و مصالحهم فانقلبوا الى ذئاب ينهشون مواطنيهم و يحتكرون الدواء و البنزين و المازوت و الغاز و قد يحتكرون غدا الرغيف مع السلع الغذائية كل ذلك لتحصيل المال الحرام لجيوب العملاء و إرضاء اميركا في تنفيذ خطة تدمير لبنان من اجل تدمير المقاومة التي اثبتت قوتها و اكدت انها عصية على ذلك .
و عليه نقول ان المواجهة على ارض لبنان حتى الان بين اميركا و من معها من أدوات محلية او اجنبية من جهة و بين المقاومة و محورها من جهة أخرى لم تلحق الضرر بالمقاومة و لا يبدو انها قادرة على النيل منها في ظل ابداعات المقاومة في الأداء الدفاعي لكنها أدت الى انزال الفظائع و المآسي بالشعب اللبناني الذي جعلته اميركا طريدة مباشرة لإرهابها الاقتصادي و ضحية للفراغ السياسي و هددته في امنه و ماله و عيشه ، وضع انتجته الفكر الاميركي الشرير و صنعته بأيدي لبنانية عملية .وضع لن يتوقف كما يبدو الا عندما تقتنع اميركا ان عدوانها لن يحقق أهدافه او ان يتراجع اللبنانيون الذين تتخذهم اميركا أدوات تنفيذية عن لعب هذا الدور الخسيس .