أخيرًا، كسر رئيس الحكومة المكلّف نجيب ميقاتي صمتًا اعتمده منذ اليوم الأول لقبوله المهمّة، حين تمسّك بمقولة "خير الكلام ما قلّ ودلّ"، فصارح اللبنانيّين بصورة حكوميّة "غير ورديّة"، وبصعوبات تقنيّة ولوجستيّة كبيرة تحول دون التأليف، وإن أكّد في الوقت نفسه أنّه يعمل "جاهدًا" لتذليل العقد والعقبات في أقرب وقت ممكن.
لعلّ ميقاتي أراد بـ"مكاشفته" هذه ضرب أكثر من عصفورٍ بحجر، فهو انطلق ربما من موقف "دفاعيّ"، بعدما حوصِر إعلاميًا بـ"مهلة" قيل إنّه قيّد نفسه بها، ولا تتجاوز نهاية الشهر الحاليّ، فإذا به يقترب منها، دون أن يكون "جاهزًا" لا لإعلان تشكيلة حكوميّة يتوافق عليها مع رئيس الجمهورية ميشال عون، ولا للاعتذار عن استكمال المهمّة.
أما "العصفور الثاني"، فقد يكون موجَّهًا لـ"الشريك" في التأليف، أيّ الرئيس عون، حيث غمز ميقاتي من قناة هذه "الشراكة"، حين تحدّث عن "دستور الطائف"، وكذلك حين أكّد أنّه "يَعي جيّدًا" أين تكمن العراقيل، علمًا أنّ هناك من قرأ في خروجه عن تعميم "الأجواء الإيجابية" تحديًا لبعبدا، التي تناسبها "المناخات التفاؤلية" في هذه المرحلة.
لهذه الأسباب، على الأرجح، لم "يهضم" الكثير من "العونيّين" المقابلة المتلفزة الأخيرة لرئيس الحكومة المكلّف، بدءًا من الشكل قبل المضمون، حيث طُرِحت في أوساطهم "تساؤلات" عن الخلفيّات التي تدفع الرجل للإدلاء بحديثٍ لقناة عربيّة، سعوديّة تحديدًا، في هذا التوقيت، وفي "ذروة" مهمّته المفترض أن تقود إلى "برّ الأمان" الحكوميّ.
لا يفصل هؤلاء بين الكلام الذي أدلى به ميقاتي، في بعض جوانبه على الأقلّ، والبيان "الناريّ" الذي صدر عن نادي رؤساء الحكومات السابقين قبله بساعات، وميقاتي في عدادهم، وتضمّن "تصويبًا مباشرًا" على رئيس الجمهورية، لكن من بوّابة التحقيقات بملف انفجار مرفأ بيروت، ومذكّرة "الإحضار" التي صدرت بحق رئيس حكومة تصريف الأعمال حسّان دياب.
وإذا كانت بعبدا، رغم "تحييدها" ميقاتي عن ردّها "الدفاعيّ"، قرأت عبر البيان المذكور رسالة "شديدة السلبيّة" لا توفّر بتداعياتها ملفّ تأليف الحكومة، فإنّ الكثير من "العونيّين" يذهبون أبعد من ذلك، ليشتكوا ما يسمّونها بـ"ازدواجيّة" في أداء ميقاتي، بين ما أدلى به في حديثه الأخير، وما يدلي به خلال لقاءاته مع رئيس الجمهورية.
يقول هؤلاء إنّ ميقاتي نفسه عكس في مقابلته الأخيرة صورة "غير صادقة"، حين أقرّ بأنّه يخرج إلى الإعلام في بعض الأحيان بمواقف لا تعكس بالضرورة حقيقة ما يدور خلال الاجتماعات، وذلك منعًا لـ"إحباط" اللبنانيّين، مستغربين قوله إنّه يبدأ كلّ اجتماع "من نقطة الصفر"، ما يضع مصير الحكومة برمّتها "في مهبّ الريح".
يؤكّد "العونيّون" أنّه، وبعكس الصورة "السلبيّة" التي تركتها مقابلة ميقاتي، والتي ربما لم يقصدها، بدليل تمسّكه بـ"الإيجابيّة" في أكثر من موضع، فإنّ ما تتمخّض عنه اجتماعاته مع رئيس الجمهورية ليس "بهذه السلبيّة"، علمًا أنّ انطباعًا كان سائدًا قبل نحو أسبوع، بأنّ الأمور أصبحت "في خواتيمها"، قبل أن تطرأ بعض العقد.
وما يقوله "العونيّون" يؤكّده آخرون، بعضهم محسوب على رئيس الحكومة المكلَّف، ممّن يلفتون إلى أنّ الرجل، بمصارحته الرأي العام، لم يقفل الأبواب على الحلّ الحكوميّ، بل هو ربما، على العكس من ذلك، أراد "الضغط" باتجاه فتحها، وهو ما ترجم بتحرّك "الوسطاء والأصدقاء" السريع، في محاولة لاحتواء أيّ خلاف لم يقع أصلاً.
ويلفت هؤلاء إلى أنّ "قمّة الإيجابية" تجلّت باستبعاد ميقاتي خيار الاعتذار، أقلّه حتى إشعارٍ آخر، من خلال تأكيده أنّه ليس مطروحًا "على أجندته" في الوقت الحاليّ، وأنّ تركيزه لا يزال منصبًّا على إنجاز المهمّة التي قبِل التكليف على أساسها، ألا وهي تأليف حكومة تلبّي تطلّعات اللبنانيين، وتطلق "خريطة طريق" الإنقاذ والحلّ.
لا تعني هذه "الإيجابية" وجوب تعميم الأجواء "الورديّة"، وفقًا لهذه الأوساط، لأنّ "إيهام" الرأي العام بهذا الأمر، من شأنه أن "ينقلب" على أصحابه في نهاية المطاف، وحتى لا تتكرّر سيناريوهات سابقة من "الإيجابية المفتعلة" التي سرعان ما يتبيّن أنّها "وهميّة"، والتي جُرّبت في مرحلتي تكليف مصطفى أديب وسعد الحريري.
في الانتظار، يبدو الثابت حتى الآن أنّ "المراوحة" هي سيّدة الموقف حكوميًا، في وقتٍ يقول المحسوبون على ميقاتي إنّه ينتظر من عون أجوبة على التشكيلة الحكوميّة التي قدّمها له في لقائهما الأخير، فيما يؤكّد المقرّبون من عون أنّه من يَنتظر تجاوب رئيس الحكومة المكلف مع الملاحظات التي أبداها أمامه على هذه التشكيلة.
وفي حين "نشطت" بعض الاتصالات في الساعات الأخيرة، وقيل إنّ المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم دخل من جديد على خطّ "الحلحلة"، يبقى الأكيد أيضًا أنّ "لا قطيعة" بين الجانبين، وأنّ الأخذ والردّ مستمرّان، ولعلّ في ذلك وحده نقطة إيجابيّة، خلافًا لما كانت الحال عليه أيام الحريري، ولو أنّ المطلوب أكثر من ذلك بكثير.
وبين السلبيّة والإيجابيّة، فإنّ "النوم على حرير" لن يكون الحلّ، لأنّ معادلة "لا تأليف ولا اعتذار" لا يمكن أن تدوم إلى ما شاء الله، علمًا أنّ ميقاتي، وإن استبعد الاعتذار راهنًا، قال في الوقت نفسه إنّ "المهل تضيق"، مهل ضاقت وانتهت بالنسبة للكثير من اللبنانيين، الذين ما عادوا قادرين على "التطبيع" مع الأزمات المتفاقمة!.