غمرة تحضيره لزيارة الولايات المتحدة الأميركية في الشهر الفائت أطلق رئيس الحكومة العراقية مصطفى الكاظمي فكرة «مؤتمر دول جوار العراق» في بغداد دون أن يقرن الإعلان بأيّ تصوّر او تفصيل حول المدعوّين إليه أو المواضيع التي سيناقشها أو الأهداف الحقيقية المتوخاة منه.
وبعد أن التقى الكاظمي بالرئيس الأميركي جو بايدن وقبل عودته إلى بغداد أوضح أنّ العراق بحاجة الى مساعدة إقليمية ودولية لتحقيق الاستقرار على أراضيه وللانطلاق في عملية البناء وإعادة إعمار ما هدمته الحروب والإرهاب، ما جعل بعض المراقبين من حسَني النية يظنون أنّ العراق نال وعداً أميركياً بتأييد المؤتمر المخطط له للمساعدة على الخروج الآمن من منطقة التوتر وتردّي الأوضاع، الى منطقة أفضل، الأمر الذي لا يتمّ إلا بمساهمة إقليمية ودولية ولهذا كانت فكرة المؤتمر.
لكن فئة أخرى من الخبراء والمتابعين وعملاً بقاعدة «انّ سوء الظنّ من حسن الفطن» اتجهوا بتفكيرهم الى القول بأنّ العراق كلف ببناء تحالف إقليمي دولي ترعاه أميركا لتتكئ عليه في المنطقة بعد أن عجزت السعودية عن المهمة، تحالف تكون مهمته الأساسية منع العراق من الارتماء في حضن محور المقاومة لا بل الحؤول دون التواصل او التماسك بين مكونات هذا المحور.
وعلى ضوء ما تقدّم كان من الطبيعي او المنطقي لا بل المسلّم به وفقاً للرأي الأول أن يكون المدعوون الى المؤتمر فئتين… فئة دول الجوار الجغرافي وفئة دول المصالح المتقاطعة او التأثير المتبادل، ويدخل في الفئة الاولى كل من سورية والأردن والكويت وإيران وتركيا، اما في الثانية فيحضر بشكل أكيد كلّ من السعودية ومعها دول مجلس التعاون الخليجي ومصر ولبنان مع إمكانية حضور أميركا وبريطانيا وفرنسا دون ان يكون حضورهم إلزامياً، أما في جدول الأعمال فكان منطقياً أن يناقش المؤتمر مسألة الإرهاب والوجود الأجنبي على أراضي العراق وفي المنطقة، والتعاون الاقتصادي والعلاقات بين الدول المشاركة خدمة للاقتصاد العراقي واقتصادها هي، فضلاً عن مواجهة التحديات الناشئة عن الجوائح والقوى القاهرة التي تعيق العمل في الموضوعين المتقدّمين.
بيد انّ ما سجل في المسائل الإجرائية والشكلية، كما في آليات عمل المؤتمر وما صدر عنه، جعل المراقب الموضوعي يقول إنّ ما نفذ كان بعيداً عما كان يتوخاه العراق ودول جواره الإقليمي الصادقين في العمل لمصلحته، حيث غيّب عن المؤتمر أهمّ جار للعراق وهو سورية ومعها لبنان، في حين حضرت فرنسا وغابت أميركا وبريطانيا ولم يقطع فيما اذا كان الحضور الفرنسي محصوراً بتمثيل فرنسا وبصفتها الذاتية او يتعدى الأمر الى صفتها الأوروبية او الأطلسية او أي اعتبار او توصيف آخر. أما كلمات المشاركين في المؤتمر فقد جاءت في معظمها شكلية بروتوكولية احتفالية غابت عنها المواقف الحاسمة والالتزامات القاطعة، الأمر الذي عكسه البيان الختامي للمؤتمر الذي صدر بعد ساعات من افتتاح المؤتمر وهي مدة انعقاده كلها، بيد انّ الحضور الإيراني وأداء وزير خارجية إيران كان مميّزاً وعالج الكثير من الثغرات في الوضع.
لقد كان المهتمّون بشأن العراق والحريصون عليه وجوداً وحقوقاً ومصالح، يرغبون في رؤية جوار العراق الحقيقي والفعلي متحلقين حول منضدة بغداد لاتخاذ ٤ قرارات استراتيجية أساسية كبرى، أوّلها قرار خروج القوات الأجنبية من المنطقة وبأيّ صفة كانت مع إنهاء أيّ وجود عسكري احتلالي أو مقنع، وثانيها محاربة الإرهاب واجتثاثه منها، والثالث إقامة منظمة التعاون الإقليمي في غربي آسيا للتكامل الاقتصادي والأمني بين تلك الدول، والرابع اعتماد آلية مشتركة لمواجهة الحرب والإرهاب الاقتصادي الذي تمارسه بصورة خاصة أميركا.
بيد انّ هذه المواضيع لا يمكن طرحها بحضور بعض من وجد في المؤتمر وغياب من غيّب عنه، ولهذا وجد المراقبون في الحضور الإيراني وأداء وزير خارجية إيران حائلاً دون ذهاب المؤتمر الى ما يُخشى ذهابه إليه من تكوين «حلف بغداد الجديد» لوضعه في مواجهة محور المقاومة بعد سلخ عراق ـ الحشد الشعبي منه وإعطاء براءة ذمة للدول راعية الإرهاب الحقيقي وتبرئة ذمتها من مسؤولية تدمير المنطقة بخططها ومؤامراتها وأسلحتها وذخائرها وأموالها.
ولهذا نعتبر انّ ما تمخض عنه مؤتمر بغداد المنعقد يوم السبت في ٢٨اب/ أغسطس ٢٠٢١ تحت عنوان «الشراكة والتعاون» بقي في العموميات وإبرأ ذمة رعاة الإرهاب وحجب القرار الشعبي بخروج القوات الأجنبية من العراق والمنطقة، ولم يرس القواعد الصلبة لتكامل إقليمي عسكري وأمني واقتصادي، رغم انّ عالم اليوم سلّم بحقيقة فشل سياسات الأمن القطري إنْ لم تكن مبنية على قواعد الأمن الإقليمي العام، كما أظهرت الدورات الاقتصادية الحديثة أنّ الاقتصاد الإقليمي التكاملي أنجع وأعلى مردوداً وأقلّ كلفة من الاقتصاد القطري المنعزل وفي الحالة العراقية من المستحيل الحديث عن أمن عراقي مستقرّ واقتصاد عراقي مريح إنْ لم تكن سورية في صلب البناء المتصل بهذا الأمر.
وحتى لا يبقى تناولنا للموضوع محاصراً بسلبيات ما حصل او متنقلاً بين ثغراته، لا بدّ من أن نشير إلى ما حققه المؤتمر من إيجابيات على الصعيد العراقي او العلاقات بين الدول وإنْ كانت منخفضة السقف. فقد أكد المؤتمر على أهمية العراق الاستراتيجية وأعطى إشارة واضحة الى إمكانية عودتها الى الموقع الإقليمي الذي تتيحه لها جغرافيتها السياسية بعد ثلاثة عقود من العزلة والحصار ثم الاحتلال الأجنبي الأميركي والإرهاب الوحشي الذي استهدفها وكاد يقضي عليها لولا جهود الحشد الشعبي ودعم محور المقاومة.
كما انّ الحضور الإيراني المميّز والذي ظهر وكأنه حضور لمحور المقاومة بكليته منع تشكل الحلف الإقليمي المناهض لهذا المحور كما نجد انّ المؤتمر أفسح المجال أمام لقاءات ثنائية تصالحية بين بعض من حضر المؤتمر كما كان حال قطر ومصر والإمارات إلخ…
وأخيراً نقول إنّ المنطقة وهي تعيش حاضراً عصر أفول الاستعمار بكلّ أشكاله وعناوينه، مع تصاعد الفكر المقاوم والمتمسك بالنزعة السيادية الاستقلالية الحقيقية لبناء منطقة لأهلها، باتت اليوم وأكثر من أيّ وقت مضى بحاجة لبناء هيكليات التعاون والشراكة الإقليمية الحقيقية، ومع التأكيد انّ هذا لا يمكن ان يتمّ قبل ان يضع الطامعون بخيرات الغير وثرواته حداً لنزعتهم العدوانية تلك، وبهذا نبدأ بوقف الحروب المباشرة والاحتلال والقضم ويتحشد الجميع في وجه الإرهاب لاجتثاثه وبعده يتمّ الانصراف الى عمليات إعادة البناء والإعمار.
أما سياسة العزل والطمع ونزعات الهيمنة ووضع اليد فإنها تفسد الشراكة وتفشل التعاون وتمنع الاستقرار وتحول دون إطلاق عجلة البناء والإعمار، فهل يدرك ذلك من يحتلّ أرض الغير او يعتدي على الغير او يحلم باسترجاع تاريخ مضى من الانتداب والاستعمار ويضع حداً لما يقوم به؟ نسأل هكذا لأنّ بعض من كان في بغداد يمارسه الآن ويحلم باستمراره في ذلك كما يسعى الى بناء تحالفات المواجهة بدل منظومات التكامل والتعاون والشراكة