ثمة مَن يخشى أن تقود الأزمة الحالية في لبنان إلى حرب حقيقية، ويقول: الحرب الباردة لن تتأخّر لتصبح ساخنة، وستنتهي بمنتصر ومهزوم. لكن لا يرون حاجة إلى المدفع لتحقيق الأهداف السياسية. فالحرب الباردة، الدائرة منذ عامين، أكثر عنفاً من الحرب الساخنة، وأشدّ فاعلية، وأحياناً أكثر دموية. وهي ستنتهي بغلبة طرف على آخر في لبنان.
من المفارقات أنّ «حزب الله» وخصومه يتوافقون على تشخيص واحد للأزمة الحالية. فالجميع مقتنع بأنّها ليست أزمة اقتصادية- مالية فعلاً، بل هي أزمة سياسية قبل أي شيء آخر.
القريبون من «الحزب» يرون أنّ ما يجري اليوم هو حصار تقيمه الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون والعرب على «حزب الله» وإيران. فإذا ما تمَّ الرضوخ لهم سياسياً أصبح الحل وارداً في لبنان. وهذا يعني أنّ عمق الأزمة الحالية ليس اقتصادياً، كما يبدو للبعض، بل سياسي.
ويدعم هؤلاء وجهة نظرهم بالقول: الفساد الذي هو مجرد ذريعة لتبرير الحصار. وهو ليس وليد اليوم، بل إنّ عمره عشرات السنين، والمجتمع الدولي كان يعرف بوجوده، وقد تعاطى طويلاً مع السلطة والقوى السياسية «الفاسدة» في لبنان. فلماذا تمّ اختيار لحظة معينة لبدء الحصار؟
يضيف هؤلاء: الحصار ليس سوى جزء من المعركة ضدّ إيران. فإذا هُزمت، وأعلنت القوى السياسية في لبنان انصياعها لما يريد الأميركيون، تعود حنفيات الدعم الغربي والعربي كلها إلى لبنان، سواء جرى إقرار الإصلاحات المطلوبة أو لا، ولن تكون هناك مشكلة في استمرار الطبقة السياسية الحالية في السلطة.
المفارقة هي أنّ خصوم «حزب الله» وإيران يعتبرون أيضاً أنّ الأزمة الاقتصادية في العمق سياسية. فأساسها سيطرة «الحزب» على الدولة والتحكّم بمواردها ومقدّراتها. والفساد الذي أدّى إلى الانهيار تمارسه المنظومة السياسية بتغطية من «حزب الله».
في نظر هؤلاء، «الحزب» يسيطر على المرافق العامة، ويحرم الدولة من مواردها، ويبارك التهريب، ويقيم منظومة مالية واقتصادية رديفة للاقتصاد اللبناني، في داخل هذا الاقتصاد. كما أنّه أدخل أموالاً إلى القطاع المصرفي استلزمت عقوبات من الأميركيين والغربيين. كما أنّ المقاطعة العربية الخليجية للبنان سببها سياسة «الحزب». إذاً، فالانهيار الاقتصادي ليس سوى نتيجة للأزمة الحقيقية.
إذاً، تشخيص الأزمة الحالية واضح. فهو سياسي، بتأكيد من طرفي الصراع. وأي محاولة للإنقاذ تبدأ من زاوية اقتصادية لن توصل إلى نتيجة. كما أنّ المراهنة على تشكيل حكومة جديدة ستفشل.
وسيبقى حراك الرئيس المكلّف نجيب ميقاتي شبيهاً بالدوران في الهواء، إلى أن يأتي الضوء الأخضر من الخارج نتيجة أحد احتمالين:
1- تسوية بين الولايات المتحدة وإيران حول الملف النووي ومسائل التسلّح والتوسُّع الإقليمي، مع مراعاة الموقف الإسرائيلي.
2- موإجهة تنتهي بانتصار أحد طرفي الصراع الإقليمي- الدولي على الآخر.
فأي الخيارين هو الأقرب؟
بعض المحلّلين لمسار المفاوضات الأميركية- الإيرانية يعتقد أنّ التعثر الذي يصيبها منذ أشهر سيطول أشهراً أخرى. فالإيرانيون يراهنون على أنّ إدارة الرئيس جو بايدن ستصاب بالتعب وتُسلِّم باتفاق «الحدّ الأدنى» من الخسائر قبل أن تخرج من المواجهة. وفي رأيهم أنّ تجربة الانسحاب الأميركي من أفغانستان جاءت لتزيد من هذا الاحتمال.
وفيما إدارة بايدن لم تحسم خيارها حتى اليوم، عبَّر الإسرائيليون عن إصرارهم على منع إيران من توسيع سيطرتها حتى حدود إسرائيل وحوض المتوسط. وعلى الأرجح، سيكون الإسرائيليون هم عامل الضغط الأساسي لتشجيع إدارة بايدن على المواجهة. لكن نتيجة ضغوطهم ليست مضمونة.
يرى بعض الخبراء أنّ المعركة الإقليمية ستطول، ومعها ستستمر الأزمة في لبنان، ويتواصل الانهيار. وفي هذا المناخ، سيحاول كل طرفٍ وضع اليد على البلد واستثمار مقدراته. ولكن، لمَن ستَرْجَح الكفَّة في هذه المواجهة، لـ»حزب الله» أم لخصومه؟
توازنات القوة على الأرض، وداخل السلطة والمؤسسات، توحي بأنّ «الحزب» هو الأقوى والأكثر جاهزية لتكريس انتصار محقَّق واقعياً، فيما خصومه يحتاجون إلى انتصار صعب، ينطلق من الصفر، في داخل السلطة وعلى الأرض، كما إلى انتصار حلفائهم في المحور الإقليمي.
وبعبارة أكثر دقة، يقول البعض: إذا أراد الأميركيون فعلاً حسم المعركة في لبنان لمصلحة حلفائهم، فأسهل طريقة لتحقيق هذا الهدف هي إضعاف النفوذ الإيراني.
فمن دون ذلك، سيكون مطلوباً من خصوم «الحزب» في لبنان أن يواجهوا جبروت إيران من شاطئ المتوسط حتى طهران. وهذا أمر مستحيل واقعياً، نظراً إلى انعدام التوازن في ميزان القوى.
ولا يبدو الأميركيون في صدد مواجهة حاسمة مع إيران. كما ليس واضحاً إذا كانوا وحلفاؤهم الغربيون والعرب مستعدين لتغيير استراتيجيات المواجهة معها في دول الشرق الأوسط التي تسيطر إيران على قرارها، ومنها لبنان.
وفي الانتظار، لا أحد يعرف ما هي «الوصفة السحرية» التي سيستخدمها الأميركيون للمرحلة المقبلة، إذا كانوا فعلاً يريدون أن يرفعوا نفوذ إيران و»حزب الله» عن لبنان. وهذا «الانتظار الطويل» هو الذي يسمح لـ»الحزب» بأن يربح بالنقاط حتى إشعار آخر.