في المبدأ، تفصل أشهر قليلة فقط عن موعد الانتخابات النيابية المفترضة في العام المقبل، باعتبار أنّ ولاية المجلس النيابي الحالي تنتهي في 23 أيار 2022، ما يعني وفقًا للدستور اللبناني، كما للقانون الانتخابي رقم 44/2017، أنّ الاستحقاق الديمقراطيّ المُنتظَر يفترض أن يُنجَز في الشهرين السابقين لهذا التاريخ، أي بين آذار وأيار.
لكن، ما هو واضح ومبدئيّ من الناحية النظريّة والدستوريّة، لا يبدو كذلك على المستوى العمليّ، إذ إنّ لا شيء في البلد يوحي على الإطلاق أنّ موعد الانتخابات يقترب، أو أنّ العدّ العكسي لها قد بدأ فعليًا، أو أنّ هناك أصلاً من بدأ التفكير بالتحضير لها، أو بلورة التحالفات اللازمة لخوضها، علمًا أنّ البلاد ينبغي أن تكون قد دخلت أجواء الانتخابات وحملاتها الدعائيّة في مثل هذا الوقت، لو أنّ الظروف المحيطة كانت عاديّة، لا استثنائيّة كما هي اليوم بطبيعة الحال.
ولعلّ طريقة تشكيل الحكومة الحاليّة خير دليلٍ على أنّ الانتخابات ليست على "الأجندة السياسية"، فالعقد والمشاكل التي لا تزال تحول دون تأليف الحكومة، والمرتبطة ببعض الحصص والحقائب، توحي أنّ هذه الحكومة، إذا ما حظيت بـ"نعمة" التشكيل، وأبصرت النور، ستحكم "إلى ما شاء الله"، وليس لفترة انتقاليّة لن تدوم أكثر من أشهر معدودة، طالما أنّ الدستور ينصّ على أنّ الحكومة تصبح مستقيلة حكمًا بمجرّد إنجاز الانتخابات.
ولعلّ ما يغذّي هذا الاعتقاد أنّ هناك من يفسّر الإصرار على بعض العقَد، ورفض تقديم أيّ تنازلات، بأنّ هذه الحكومة ستكون هي من "يتصدّى" لإدارة الفراغ الرئاسي في حال حصل، وهو ما يدفع "التيار الوطني الحر" إلى "التصلّب" إلى هذا الحدّ، رغم أنّ كلّ تأخير هو خسارة له من رصيده ورصيد "العهد"، علمًا أنّ هذا الاعتبار لا يبدو منطقيًا لو صفت النوايا، طالما أنّ الانتخابات الرئاسية "مجدولة" بعد تلك النيابية وليس قبلها.
ما سبق ليس تفصيلاً على الإطلاق، بل يشكّل سببًا موضوعيًا موجبًا للتوجّس من أنّ سيناريو "تطيير" الانتخابات قد وُضِع عمليًا على الطاولة، لا سيما بعدما ثبُت أنّ السلطة السياسية تتعامل مع الدستور والقوانين باعتبارها "وجهة نظر"، وما تجربة الانتخابات الفرعيّة سوى الدليل الساطع على ذلك، بعدما تجاهلتها السلطة كأنّها لم تكن، رغم أنّ الشغور تخطّى الأرقام القياسيّة ووصل إلى 11 نائبًا، إثر استقالة ثمانية نواب ووفاة ثلاثة.
فعلى الرغم من إثارة موضوع الانتخابات الفرعيّة أكثر من مرّة، إلا أنّها أرجئت مرّة بذريعة "قيود كورونا"، وعدم القدرة على إنجازها في ظلّ الإجراءات الاحترازية المطبَّقة في البلاد، وعلّقت مرّة ثانية، بعد رفع القيود الصحية، "رهن" استشارة دستورية، حيث قيل إنّ القانون الانتخابي يحتاج إلى "تعديل"، لأنّه لم يلحظ بعض التفاصيل المرتبطة بالاستحقاق الفرعيّ، وكيفية احتساب الأصوات.
وإذا كان القاصي والداني يدرك أنّ هذه الحجج لم تكن أكثر من "ذرائع" لجأت إليها السلطة لترحيل الاستحقاق، فإنّ الخشية تسود الكثير من الأوساط السياسية من أن يكون "مصير" الانتخابات النيابية مشابهًا، علمًا أنّ هناك بعض المواد في قانون الانتخاب التي تحتاج إلى تعديل، سواء على صعيد "البطاقة الممغنطة"، وإمكانية اعتماد التصويت مكان السكن، أو حتّى على مستوى تصويت المغتربين، لكنّها تعديلات يمكن تمريرها بسهولة.
وثمّة من يضيف تعديلات جوهرية أخرى لا بدّ منها، بما ينسجم مع المتغيّرات التي شهدتها البلاد في السنتين الأخيرتين، من حيث انهيار العملة الوطنية والارتفاع الجنوني لسعر الدولار، ما يتطلّب تغييرًا في الفصول المرتبطة بتمويل الحملات الانتخابية، وحجم الإنفاق المسموح به قانونًا، خصوصًا أنّ الأرقام السابقة فقدت قيمتها، ولم تعد تساوي الكثير، بالنظر إلى الواقع الاقتصادي الحاليّ.
لكنّ كلّ هذه التعديلات لا ينبغي، وفق ما يؤكد العارفون والخبراء الانتخابيّون، أن تكون مبرّرًا لأيّ تمديد يسمّى زورًا بـ"التقني"، على غرار ذلك الذي سبق انتخابات 2018، لأنّها كلّها مرتبطة ببعض التفاصيل والآليات التي يفترض أن تسهّل العملية الانتخابية، لا أن تشوّش عليها أو تعرقلها أو تؤخّرها، إلا في حالة واحدة، وهي رغبة السلطة بالتأجيل، لغاياتٍ في نفس يعقوب، أو بالأحرى في نفسها هي.
وفي هذا السياق، يخشى كثيرون أن تذهب السلطة إلى خيار التأجيل باعتباره الأسهل، علمًا أنّ القوى السياسية المتخاصمة فيما بينها، قد تكون "متفقة" على أنّ "تطيير" الانتخابات في مصلحتها جميعها، ولو كانت تردّد في الجلسات العلنية أنّ نتائج الانتخابات بموجب القانون الذي فصّلته على قياسها ستعزّز نفوذها وموقفها، إذا ما أثبتت أنّ المزاج الشعبيّ لا يزال معها، بعيدًا عن شعار "كلن يعني كلن" الشهير.
لكن هناك في السلطة من لا يريد "المغامرة"، خصوصًا إذا ما بقي الواقع كما هو حتى الانتخابات، إذ إنّ ما شهده اللبنانيون من "إذلال" غير مسبوق هذا العام، قد يدفع كثيرين، حتى من مؤيّدي الأحزاب التقليديّين، إلى "الثورة والانتفاضة" على طريقتهم، وبالتالي فسيكون الثمن "باهظًا" على بعض القوى السياسية التي لا تزال مصرّة على "النوم على حرير"، وتجاهل كلّ المتغيّرات التي حصلت.
الانتخابات النيابية في خطر. هذا ما يؤكّده الحدس السياسيّ، ويثبّته الواقع القائم، خصوصًا أنّ الظروف التي "استوجبت"، بالمعنى المجازي، التمديد للبرلمان في السابق، لا تُقارَن بتلك القائمة اليوم بأيّ شكل من الأشكال. ثمّة من يراهن على الخارج لفرض الانتخابات في موعدها، رهان قد لا يكون في محله بعدما نجح السياسيون في "سحب" لبنان من "الأولويات"، ليبقى الرهان الأكبر على شعبٍ لن يقبل "مصادرة" قراره، مهما كان الثمن!.