بهدوءٍ لافت، وربما غير متوقّع ولا مسبوق، مرّت زيارة الوفد الوزاري اللبناني إلى العاصمة السورية دمشق، وهي الأولى من نوعها منذ عشر سنوات، دون "طنّة ورنّة"، بل بـ"موافقة ضمنيّة" من جميع الفرقاء، بمن فيهم أطراف ما كانت تُعرَف بقوى الرابع عشر من آذار، التي خرج منها من يرحّب بالزيارة ويباركها.
لعلّ هذا "الهدوء" في مقاربة الزيارة بدا مُستغرَبًا، بل مريبًا بالنسبة لكثيرين، خصوصًا أنّ الزيارات "الفرديّة" لبعض الوزراء المتحالفين مع سوريا لطالما كان يُقابَل على امتداد السنوات الماضية باستهجان شديد، يصل حدّ "تخوين" متجاوزي الحدود، وهو ما دفع إلى "تجميد" الحراك باتجاه سوريا، أو "حصره" بالحدّ الأدنى لفترة طويلة.
لكن، وعلى طريقة "إذا عُرِف السبب بطُل العجب"، بدت "المبرّرات" للهدوء الذي رافق الزيارة، مقنعة، وهي لا تستند إلى الوضع "الحَرِج" الذي يشهده لبنان منذ أشهر، والوضع "الكارثيّ" الذي يواجهه على كلّ المستويات، والذي يتطلّب طلب المساعدة من الجوار، ولكن بكلّ بساطة لوجود "ضوء أخضر" أميركيّ "بارك" الزيارة قبل حصولها.
يقول العارفون في هذا السياق إنّ السفيرة الأميركية لدى لبنان دوروثي شيا أعطت "الموافقة المسبقة" على الزيارة، التي جاءت أصلاً ترجمة لما أعلنته قبل أسابيع، عن قبول الإدارة الأميركية استجرار الغاز إلى لبنان عبر سوريا، مع ما ينطوي على ذلك من خرق لقانون "قيصر"، وُضِع في خانة "الحرتقة" على حراك "حزب الله".
لذلك، على الأرجح، صمت "السياديّون" من قوى "14 آذار"، وفق ما يقول خصومهم، عن مبدأ الزيارة وجوهرها، قبل أن يجدوا "ضالتهم" في غياب العلم اللبنانيّ عن قاعة اللقاء الذي جمع الوفدين اللبناني والسوري، ما اعتبروه "إهانة" لا يمكن السكوت عنها، خصوصًا أنّها تشكّل خروجًا على كلّ الأعراف واللياقات الدبلوماسية المُتعارَف عليها بين الدول.
بالنسبة إلى خصوم هؤلاء، فإنّ التركيز على هذا التفصيل "الشكليّ" يعبّر عن "الأزمة" التي وجد "الآذاريّون" نفسهم فيها، بعدما "أجبرتهم" الإملاءات الأميركيّة على الوقوف في "تناقض" مع نفسهم، واضطروا للترحيب بزيارةٍ كانوا "يحرّمونها"، و"يخوّنون" كلّ من يفكّر بها، حتى إنّ رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري وضع "رفض" الزيارة إلى سوريا عنوانًا لحملاته على خطّ رئاسة الحكومة لأشهرٍ طويلة.
وقد لا يكون حلفاء سوريا، "الشامتون" بخصومها، أفضل حالاً، وهم يتباهون بما يعتبرونه "إنجازًا" لم يكن ليحصل لو أنّ الولايات المتحدة، وهي "الشيطان الأكبر" في قاموسهم ومنطقهم، لم تمهّد له وتأذن بحصوله، الأمر الذي يفرغه أساسًا من مضمونه، ويجعله مجرّد "خضوع" لبلاد العمّ سام، شاء من شاء وأبى من أبى.
وبين "منطق" هؤلاء وأولئك، يؤكّد المطّلعون أنّ زيارة الوفد اللبناني إلى سوريا تبقى "محصورة" بأجندتها المُعلَنة، وتحديدًا مناقشة الأوضاع الصعبة التي يمرّ فيها البلدان، وخصوصًا في مجالات الكهرباء والغاز، فضلاً عن إمكانية مساعدة سوريا للبنان في إمرار الغاز المصري والكهرباء الأردنية عبر الأراضي السورية.
وقد جاء التأكيد على ذلك من خلال البيان الختامي الذي صدر بنتيجة اللقاء، والذي أكّد من خلاله الجانبان على "متابعة الجوانب الفنية التفصيلية من خلال فريق مشترك لمناقشة القضايا المتعلقة بالأمور الفنية في كلا البلدين"، علمًا أنّ الأنظار تتّجه نحو اجتماعٍ آخر يعقد الأربعاء في العاصمة الأردنية عمّان بمشاركة وفود تمثل سوريا ولبنان ومصر والأردن.
ويجزم العارفون أنّ المحادثات التي جرت في دمشق بقيت "مضبوطة" بالمستوى الفني التقني، وأنّ السياسة "غُيّبت" عمدًا عن المناقشات، إلا أنّ هناك من يتحدّث عن بعض المؤشّرات التي قد تكون "معبّرة"، من بينها أنّ الوفد لم يكن تقنيًا محضًا، طالما أنّ نائبة رئيس الحكومة وزيرة الخارجية بالوكالة زينة عكر كانت حاضرة، ما أعطاه بعدًا سياسيًا لا يخفى على أحد.
لكن، هل تكون هذه الزيارة بمثابة "توطئة" لعودة سوريّة إلى لبنان، من بوابة "إنقاذه"، وهي الحُجّة نفسها التي أعطيت لدخولها إلى البلاد في مراحل تاريخيّة سابقة؟ وهل يكرّر "التاريخ" نفسه، طالما أنّ ما أحاط بهذه الزيارة أوحى بوجود "شبه تواطؤ" جماعيّ على مثل هذه العودة، مع "توافق" إقليميّ مضمر؟.
قد لا يكون مثل هذا الاستنتاج في مكانه، أقلّه في الوقت الراهن، وريثما تنضج المعطيات أكثر، فلا سوريا في وارد العودة إلى لبنان، وهي تعاني ظروفًا صعبة وعزلة تاريخيّة، يقول كثيرون إنّ نظامها تسبّب بها لنفسه، عندما فضّل خيار "الحرب" على شعبه وناسه قبل غيرهم، على "التسوية"، ولا لبنان في وارد "استنساخ" تجربة "الوصاية" التي يقرّ حلفاء سوريا قبل خصومها، أنّها حملت الكثير من الجوانب "المظلمة والسوداويّة".
حتى حلفاء سوريا لا "يجاهرون" بخلاف ذلك، فرغم أنّ المقرّبين منهم والمحسوبين عليهم، يؤكّدون وجوب استكمال الزيارة "التقنية" بعلاقات "سياسيّة" مع النظام في سوريا، تُخرِجهم من دائرة "الضوابط" المحدّدة سلفًا من جانب الولايات المتحدة وغيرها، ويرون أنّها تصبّ في مصلحة البلدين "الشقيقين"، إلا أنّ أحدًا لا يذهب إلى حدّ الحديث عمّا يتخطّى منطق "تطبيع العلاقات"، بالإطار الضيّق للأمور.
لا شكّ أنّ لزيارة دمشق، إلى جانب طابعها التقني والفنّي، دلالاتها السياسية، دلالات أحدثت انقسامًا في اليومين الماضيين، لكنّ هناك من يعتبر الأزمة اللبنانية مجرّد "تفصيل" على خطّها، لكونها تتجاوز الواقع الداخليّ، لصالح واقع إقليمي متشابك، ما يدفع كثيرين للتكهّن بمرحلة جديدة في الإقليم، قد تكون ملامحها بدأت بالظهور!.