كانت سندات الخزينة، في الكثير مِن الأَحيان مُنطلقًا لحلّ مُعضلةٍ وطنيّةٍ، أَو ملفٍّ شائكٍ، على قياس الوطن!... وقد أَثْبَتت هذه "المُبادرة" فعاليّتها في حالات معيّنة... وفشلها في مواضع أُخرى!. ومِن الأَمثلة على نجاح اعتماد سندات الخزينة، على سبيل المثال لا الحصر، إِنجاز إثيوبيا تشييد "سدّ النّهضة"، باعتمادها هذه الوسيلة... فهل يصلح النّموذج الإِثيوبيّ لحلّ مُشكلات الطّاقة والمياه في لُبنان؟... لا شكّ أَن ثمّة شروطًا لنجاح مبادرة سندات الخزينة، والعبرة في التّجربة الإثيوبيّة في هذ المجال... مع الإِشارة إِلى أَنّ مُقاربة المياه قد تصلح في عِبرتها لمُقارباتٍ ومُعضلاتٍ وطنيّةٍ أُخرى، كالكهرباء ومصادر الطّاقة والتّعليم... كما وأَنّ اللاعبين الدّوليّين ما زالوا في أَوجّ حُضورهم وفاعليّتهم على السّاحة الدّوليّة... فاقتضى التّوضيح...
سندات الخزينة الإِثيوبيّة
ولطالما بقيت إثيوبيا تُواجِه "مُعضلة تمويل سدّ النّهضة" إِلى أَن أَصدر "بنك التّنمية الإِثيوبيّ" دُفعتَيْن اثنتَين مِن السّندات، المُخصّصة لتمويل السّد، وقد وُجّهَتا إِلى أَكثر مِن ثلاثة ملايين إِثيوبيٍّ مُقيمٍ في الخارج. ولكن في حين أَنّ الإِصدار الأَوّل مِن السّندات لم يُحقِّق الإِقبال المُنتظر، بسبب المخاطر السّياسيّة المُرتبطة بالمشروع، والمخاوف مِن قدرة الحُكومة على الدّفع، فإِنّ الدُّفعة الثّانية مِن السّندات قد حقّقت نجاحًا ملحوظًا، بعدما قامت الحُكومة بتقليص الحدّ الأَدنى للاستثمار في السّندات، مِن 500 دولار إِلى 50 دولارًا فقط، وسمحت بنقل ملكيّة السّند بين الأَفراد، كما وزادت العائِد على السّندات ليتراوح بين 5-6 %، وكذلك تعهّدت بتحمُّل كُلّ رُسوم التّحويلات المُرتبطة بشراء السّندات.
وعلى غير المُتوقَّع، فقد نجحت خطّة التّمويل الحُكوميّ، حيث وجمعت أَديس أبابا أَكثر مِن 450 مليون دولار، مِن مصادر التّمويل المحلّي، في حُلول العام 2014. ويُعتقَد أَنّ حصيلتها وصلت إِلى مليار دولار على الأَقلّ مُنذ ذلك التّوقيت. وعلى رُغم ذلك، ظلّت هذه الأَموال بعيدةً عن مبلغ الخمسة مليارات دولار المطلوبة في شكلٍ مبدئيٍّ لتمويل السدّ، وسرعان ما استُنفِدت في أَعمال الإِنشاءات الأَوّليّة، لذا، ففي حُلول العام 2015، كانت أَعمال البناء في السدّ قد توقّفت في شكلٍ كُليٍّ، وبدا أَنّ أَحلام أَديس أبابا الطّموحة في طريقها إِلى الانهيار...
التوجُّه شرقًا
وفي ذلك التّوقيت، كانت ديناميات القوى في منطقة حوض النّيل قد بدأت تشهد تغيُّرًا ملحوظًا مع تعزيز الصّين لحُضورها الدّيبلوماسيّ على السّاحة الدّوليّة، وبخاصّةٍ في أَفريقيا، ومساعي بكين لإِعادة إِنتاج الدّور الّذي يُؤدّيه الاتّحاد السّوفياتيّ في القارّة، خلال حقبة الحرب الباردة، من خلال تَوْفير مصادر التّمويل البديلة، والخُبرات الفنيّة اللازمة لمشروعات التّنمية الطّموحة في أَفريقيا، وعلى عكس قُروض مُؤَسّسات التّمويل الغربيّة الّتي غالبًا ما تأْتي مُحمَّلةً باشتراطاتٍ سياسيّة في شأن تحرير الاقتصاد، وتحسين كفاية الحُكومة والإِدارة، ومُراقبة سجلّات الأَنظمة في مجال حُقوق الإِنسان، فإِنّ الأَموال الصّينيّة جاءت مُعفاةً مِن هذه الاشتراطات، لذا فإِنّها وجدت الكثير مِن الرّاغبين في الدُّول المُهمَّشة في القارّة السّمراء. لقد أَقامت الصّين، في شكلٍ خفيٍّ نُفوذها بين القوى النّاشئة في أَفريقيا، ووضعت أَنظارها على أَكثر الموارد المُتنازَع عليها في القارّة وبخاصّةٍ الموارد المائيّة والأَنهار، حيث تُشير البيانات إِلى أَنّ الصّين استثمرت في تمويل السُّدود وبنائها، في 22 دولةً أَفريقيّةً خلال العقد الأَخير، ولم تكُن منطقة حوض النّيل استثناءً مِن ذلك، فوسط التّراجُع الملحوظ للقاهرة، والصُّعود الواضح لإِثيوبيا، تمكّنت بكين مِن توظيف الصّراع طويل الأَمد بَيْن القُوّتَيْن لمصلحتها، وبخلاف ذلك، فإِنّ بكين وجدت في أَديس أَبابا، المعروفة تاريخيًّا بمُقاومتها للاستعمار والنُّفوذ الغربيّ، موطئ قدمٍ مُناسبًا لتأمين دورها المُستقبليّ في أَفريقيا في شكلٍ عامّ، وفي منطقة حوض النّيل على وجه التّحديد.
وفي العبرة فإِنّ التّاريخ يترك للشّعوب نافذةً لا بُدّ من لاستفادة منها للعُبور إِلى حلولٍ لمعضلاتهم والقضايا الشّائكة...