برحيل إنسانٍ تخسره أُسرته وعائلته ويحزن عليه مَنْ عرفه أو سمع عن عمله.
لكن، برحيل رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الإمام العلامة الشيخ عبد الأمير محمد علي قبلان، فإنّ الخسارة مُتعدّدة.
لأنّ الإمام الراحل، صاحبُ مسيرةٍ حافلة بالنضال والتضحيات والعطاءات، والمواقف الجريئة في أوقات الشدّة والمُلمّات، التي يبرز فيها الفرسان.
هكذا هي مسيرة "مولانا"، الذي اعتدنا على مُناداته بها على مدى سنوات عدّة، شملت مُختلف مناحي الحياة: مُقاومة للاحتلال الإسرائيلي والإهمال والحرمان، ونصرةً للمظلومين، ورفض التمييز الطائفي والمذهبي، وجسر تواصل بين المُسلمين ومع الشريك المسيحي، بما يتجاوز لبنان إلى المنطقة العربية.
في صدارة كل ذلك، كانت القضية الفلسطينية، التي حمل لواءها مُنذ نعومة أظافره مُدافعاً صلباً عنها حتى الرمق الأخير.
عمل على إنشاء الجمعيات، وتشييد المساجد والحسينيات والمدارس والجامعات والمُستوصفات والمُستشفيات ودور رعاية العجزة والمُسنّين ومبرّات الأيتام، ودَعَمَ بناء الكنائس، وفي صلب كل ذلك كان همّه الإنسان، كإنسانٍ أخٍ وشريكٍ في الإنسانية.
كان يُسارع إليه المُتمولين والمُغتربين والمُقتدرين لوضع إمكانياتهم بتصرف سماحته ليُنفقها مُساعدات على أعمال الخير.
امتاز بكفالته للأيتام والثكالى وقربه من الناس، جال بينهم وتفقّد أحوالهم، وفتح أبوابه لاستقبالهم مُنذ ساعات الصباح الأولى، لا يُرد طالب حاجة، ولا قاصد خدمة، ففي قاموسه الخدمة واجب، ولا يُمكن أنْ يخرج مَنْ قصده دون تلبية أو تحقيق مطلبه، حتى أضحى "أبو الفقراء".
* في العلم: هو العلامة من بيت تقوى وإيمان، من جدّه الشيخ موسى قبلان وأبيه الشيخ محمد علي قبلان في بلدة ميس الجبل، إحدى أبرز بلدات جبل عامل، التي تُشكّل نموذجاً للعيش الإسلامي مع محيطها المسيحي وبعمقها العربي مع فلسطين، والتي اشتهرت بالعلم والعلماء، حيث أبصر فيها النور في العام 1936.
باكراً اكتشف والده الشيخ محمد علي قبلان شغف نجله بطلب العلوم الدينية التي تلقّاها على يديه، فاصطحبه إلى النجف الأشرف في العراق، فنهل العلم على يدي كبار مراجعها الدينية، فتميّز وتفوّق، وحاز وكالات شرعية عامّة من المراجع الروحية، ولُقِّبَ بـ"ذي الشهادتين"، تقديراً لإخلاصه وتفانيه وصدقه.
قبل عودته إلى لبنان، كان قد تتلمذ على يده عدد كبير من رجال الدين اللبنانيين، فضلاً عن عرب وأجانب.
في العام 1963، عاد الشيخ عبد الأمير قبلان إلى لبنان، وانطلق في مُهمّته التوعوية والتبليغية الدينية، وباشر ببناء المساجد والحسينيات والمُؤسّسات التي عمل على مأسستها جميعاً.
تميّزت علاقة الشيخ عبد الأمير قبلان مع الإمام السيد موسى الصدر، التي تُرجمت نتائجها الإيجابية داخل الطائفة الشيعية، برفع الظلم والإجحاف والحرمان والاضطهاد، الذي كان يُعاني منه أبناؤها، فواجها الإقطاع السياسي، والتمييز الطائفي والمذهبي، الذي شكّل خطراً وشعوراً بالظلم، فأضحى العمل مُقاومةً له.
كان له دور فعّال مع الإمام الصدر بتأسيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، حيث انتخبَ عضواً في هيئته الشرعية في العام 1969، قبل أنْ يتولّى منصب المُفتي الجعفري المُمتاز في العام 1970، بعد رحيل المُفتي السيد حسين الحسيني.
بعد اختطاف الإمام الصدر ورفيقيه الشيخ محمد يعقوب والصحافي عباس بدر الدين، إثر زيارة ليبيا في العام 1978، انتُخِبَ في العام 1994 نائباً لرئيس المجلس بعد انتخاب الشيخ محمد مهدي شمس الدين رئيساً له، قبل أنْ يُنتَخَب الإمام قبلان رئيساً للمجلس الشيعي في أوائل شهر تموز/يوليو 2000، نزولاً عند رغبة الإمام شمس الدين، بعد إصابته بمرض عضال.
امتاز بعلاقته الوطيدة مع رئيس حركة "أمل" نبيه بري، قبل أنْ يُصبِح رئيساً للمجلس النيابي، الذي كان يقف دائماُ على رأيه السديد.
* في الوحدة الإسلامية - المسيحية: عمل على جمع البيت داخل الطائفة الشيعية، وتوطيد العلاقة مع الشركاء في الطائفة السنية مُنذ مُفتي الجمهورية اللبنانية الشهيد الشيخ حسن خالد، وطائفة المُوحّدين الدروز، ومع الشريك المسيحي مادّاً جسور الوحدة الداخلية، وتشكيل "هيئة نصرة الجنوب" في العام 1970 مع الإمام الصدر والمُطران أنطوان بطرس خريش، كذلك في القمم الإسلامية - المسيحية التي كان فيها موقفه ثابتاً، بالتأكيد على التعايش الإسلامي - المسيحي وعمقه العروبي الوطني، ليُضحّي "عميد المراجع الدينية" في لبنان بعد مسيرة 50 عاماً.
كان حريصاً على الوحدة العربية والإسلامية والمسيحية، وعاملاً على تذليل العقبات التي تعترض ذلك من خلال لقاءاته بقادة عرب، أو مُشاركته بمُؤتمرات ومُحاضرات مُتعدّدة.
* في مُقاومة العدو الإسرائيلي: كانت ولادة الإمام قبلان في العام 1936، تزامناً مع الثورة الفلسطينية الكبرى التي شكّل مسقط رأسه ميس الجبل امتداداً لها لتداخل أراضيه مع الأراضي الفلسطينية، التي قُسِّمَتْ بـ"اتفاقية سايكس - بيكو" في العام 1916، حيث كانت أراضي ميس الجبل، التي شهدت على طفولة الشيخ عبد الأمير مرتعاً لمُمارسة هواياته والذهاب مع العائلة إلى حقولها وأبيرتها.
لم يتم الثانية عشرة من عمره حتى كان العدو الإسرائيلي يحتل الأراضي الفلسطينية، فاستقبلت عائلة العلامة الشيخ محمد علي قبلان أبناء فلسطين، من أهلٍ وأقارب وأصدقاء، عاشوا معاً وسوياً، وانطلقوا في مُقاومة الاحتلال قبل انطلاق الثورة الفلسطينية، التي تزامنت مع عودة الشيخ عبد الأمير من العراق.
كان يحثُّ الفدائيين على المُقاومة، وترسّخت علاقته مع قادة الثورة الفلسطينية، وتوطّدت مع الرئيس الشهيد ياسر عرفات، فكان على تواصل دائم معه، فأضحى الإمام قبلان في طليعة حاملي لواء القضية الفلسطينية والدفاع عنها ونقل عدالتها إلى العالم.
يُعتبر الشيخ عبد الأمير عنواناً وقائداً للمُقاومة، ومُحتضناً للمُقاومين، وعرضةً لمُخطّطات العدو الإسرائيلي وعملائه، وتزامن رحيله مع الذكرى السنوية الـ24 لـ"عملية انصارية" التي حصلت ليل 4-5 أيلول/سبتمبر 1997 وقُتِلَ فيها 15 جندياً إسرائيلياً، كان هدفها منزل الشيخ عبد الأمير في أنصارية (ليس المجال الآن لذكر ماذا كانت تستهدف!).
* احتضان أبوي: في اللقاءات المُتعدّدة، التي كنّا نلتقي بها "مولانا" الشيخ عبد الأمير، كنّا نشعر بأنّنا نجلس مع والد، مُربٍّ، مُعلّم، علّامة، مُوجّهٍ، عطوفٍ، كريم النفس ومُحب.
إنْ جلستَ في مجلسه، يأسرك بحديثه العذب، المُتنوّر في علوم الدين والفقه والأدب والحوار.
وفي مُعالجة القضايا، له أسلوبه الخاص ورؤيته، التي كانت من ثمارها مُصالحات عشائرية.
وإنْ تحدّث، فهو سيد المنبر والموقف الجريء الواضح.
كنّا دائماً نتبارك من "مولانا" الشيخ عبد الأمير للوقوف على آرائه عبر مُقابلات ولقاءات ومقالات وآراء ومواقف ونشاطات تُنشر عبر صفحات "اللـواء"، خاصة في "لـواء صيدا والجنوب"، الذي كان يتصدّر صفحاته، كما كانت مقالاته تتصدّر الصفحة الأولى في جريدة "اللـواء"، خاصة في شهر رمضان المُبارك من كل عام، كذلك
الزيارات الدورية التي نُشارك بها ضمن وفد "اللـواء" يتقدّم عميد "اللـواء" الأستاذ عبد الغني سلام ورئيس التحرير الأستاذ صلاح سلام.
في اللقاءات كان يقول الإمام قبلان: "أنا عنصر في خدمة فلسطين وأهلها".
هذا ما كرّره عندما زرته برفقة عائلة الشهيد محمد أبو خضير، والديه حسين وسهى، خلال تقديم كتابي "فرسان فلسطين"، يوم الخميس في 26 تشرين الثاني/نوفمبر 2015، بعد تكريم سماحته خلال توقيع الكتاب في "قاعة قصر الأونيسكو"، يوم الاثنين (23 منه)، حين أطلق عليه لقب "الإمام الفدائي المُقاوم".
يرحل صاحب السماحة، شهيداً يشهد له الناس بمناقبيته وعدله، ونزاهته، وفكره النيّر، وتجسيده للحوار مع الآخرين، عاملاً من أجل وحدة اللبنانيين والمُسلمين والمسيحيين ونصرة قضية فلسطين.
تماماً كما بياض عمامته، ولحيته، التي تنسحب على طيبة قلبه، الذي لا تعرف الضغينة مكاناً فيه، فسمة صاحب السماحة، التسامح، والمُسامحة والصفح وهو المشهود له بقيام الليل وخشوع الصلاة وتلاوة القرآن.
هكذا وُلِدَ وتعلّم من علقم شتلة التبغ صموداً.
ومن حصاد القمح عطاءً.
فقرن القول بحي على خير العمل.
يرحل "مولانا"، وقد اجتمعت به هذه الخصال، وهم قلّة، تاركاً صدقات جارية، بمنارات بارزة، وعلم ينتفع به، وأولاد صالحين، في مُقدّمهم الدكتور علي والمُفتي الجعفري المُمتاز الشيخ أحمد قبلان والأسرة والعائلة، ومن كان له فضل عليهم، بحفظ الوصية، وفي طليعتها التواصل مع من أحب فقيدنا الكبير، رحمه الله وأسكنه فسيح جنانه مع الأنبياء والأولياء والصالحين وحسب أولئك رفيقاً.