الهروب إلى الأمام صار صفة مُلازمة لسياسة الكثير من المسؤولين الذين يُفترض أن يكونوا مسؤولين عن أمن المواطن اللبناني المعيشي والحياتي، علمًا أنّ هذه الصفة تُضاف إلى صفات أخرى مُتعدّدة مثل التسويف والمُماطلة والتأجيل والتهرّب من تحمّل المسؤولية وغيرها الكثير! والأمثلة على ذلك لا تُعدّ ولا تُحصى، من أسلوب مُعالجة مشاكل المحروقات والأدوية وُصولاً إلى مشاكل خدمات التعليم والطبابة والعمل، وما بينهما، بحيث إخترنا تناول قضيّتين فقط في هذا المقال، نتيجة تسليط الضوء عليهما في الساعات القليلة الماضية.
وفي هذا السياق، في قضيّة رفع قيمة السُحوبات من الودائع بالدولار المُحتجزة في المصارف اللبنانيّة، لا تزال سياسة المُماطلة والتأجيل وكسب الوقت هي السائدة، على الرغم من الفرق الشاسع بين سعر السحب المُمدّد له، وسعر الصرف الحقيقي للدولار حاليًا. تذكير أنّ التعميم رقم 151 الذي ينصّ على سحب الودائع بسعر صرف يبلغ 3900 ليرة لبنانيّة لكل دولار، يعود تاريخ إصداره من قبل مصرف لبنان إلى 21 نيسان من العام 2020، ويومها كانت نسبة الإقتطاع من الودائع مقبولة على مضض من قبل المُودعين الخائفين على جنى عمرهم وغير المُخيّرين أصلاً. أمّا اليوم، وبعد تمديد القرار، صار هذا الفارق شاسعًا إلى درجة أنّ أيّ عمليّة سحب وفق المبالغ المنصوص عنها في بُنوده، تحوّلت إلى سرقة مَوصوفة للودائع، في ظلّ إستمرار الهروب إلى الأمام عبر تأجيل رفع قيمة السحوبات.
وفي جلسة الخميس للجنة المال والمُوازنة، طلب مُمثّلو مصرف لبنان مهلة إضافيّة، بحجّة تقديم الأرقام ودراسة التأثير الفعلي لأي قرار يقضي برفع سعر الصرف، علمًا أنّ مفاعيل التعميم 151 تنتهي في آخر شهر أيلول الحالي، بعد أن جرى تمديد هذا القرار في السابق. وكان لافتًا غياب أيّ مُمثّل عن جمعيّة المصارف عن جلسة اللجان، وكأنّ مسألة السحب من الودائع لا تعنيها! وفي كلّ الأحوال، إنّ رفع قيمة السُحوبات بالليرة في مُقابل الدولار-في حال إقرارها، لن تكون كبيرة، وهي قد تترافق مع قيود إضافيّة على المبلغ الذي يُمكن سحبه من الدولارات، بحجّة عدم الرغبة بطباعة المزيد من الأوراق النقديّة بالعملة الوطنيّة تجنّبًا للتسبّب بمزيد من التضخّم، وبالتالي بمزيد من الإنهيار في قيمة الليرة، ما يعني أنّ سياسة الإقتطاع من الأموال (هيركات) ستبقى قائمة في المدى المنظور.
بالإنتقال إلى قضيّة البطاقة التمويليّة المَوعودة بدورها منذ أشهر طويلة، إنّ سياسة الهروب إلى الأمام هي المُطبّقة أيضًا-أقلّه حتى اللحظة. وعلى الرغم من المؤتمر الإعلامي الرنّان لإعلان الخطوات التنفيذيّة لهذه البطاقة، وبغضّ النظر عمّا إذا كانت ستوُظّف في المعارك الإنتخابيّة المُقبلة أم لا، إنّ التأخير هو الطاغي على موعد التنفيذ الفعلي، خاصة وأنّ عمليّات التدقيق بالمعلومات التي سيتم تسجيلها حتى نهاية الشهر المُقبل، تستغرق وقتًا إضافيًا أيضًا. وبعد طول دراسة وتدقيق، تقرّر فتح المجال لتسجيل الأسماء على منصّة خاصة حتى نهاية تشرين الأوّل، على أن يبدأ الدفع بعد ذلك، ضُمن مبالغ زهيدة جدًا. والقول إنّ الدفع سيكون إمّا بالدولار أو بما يُعادله بالليرة بحسب سعر السُوق، جاء بسبب غياب الإتفاق على هذه الخُطوة بعد، حيث أنّ المعلومات المُتوفّرة تُشير إلى إنّ مصرف لبنان يطمح للإستحواذ على الدولارات التي ستُمنح من الخارج على أن يُسدّد قيمتها بالليرة للمُستفيدين، لكنّ الأمر لم يُحسم بعد بسبب إعتراضات على هذه الخُطوة من قبل أكثر من جهة محليّة وخارجيّة.
وتُوجد أيضًا عراقيل تطبيقيّة عدّة أمام التنفيذ، حيث على المُستفيدين مثلاً تسجيل طلباتهم على منصّة خاصة، وإستخدام بطاقات هويّة، وإبراز الأرقام الماليّة الخاصة بأعمالهم، ورفع السريّة عن أموالهم ومداخيلهم، وتفويض الشخص الذي سيقبض الأموال بإسمهم، إلى ما هناك من خطوات تقنيّة مَطلوبة، منعًا للتزوير. لكنّ قُسمًا كبيرًا من الشرائح المُستهدفة، سيُواجه مصاعب كبرى في تأمين ما هو مَطلوب منه من شُروط. كما أنّ التدقيق بالمعلومات والزيارات المنزليّة لفريق صغير من هيئة التفتيش المركزي لمئات آلاف المُتقدّمين، يستوجب فترة زمنيّة طويلة جدًا، حتى مع إختيار عينات محدودة من إجمالي الطلبات للتدقيق الإضافي في معلوماتها ميدانيًا. وبالتالي، إنّ رفع الدعم، وحُكمًا الأسعار، سيسبق البدء بالإستفادة من البطاقة التمويليّة، هذا إذا سلّمنا جدلاً أنّ الجهات المانحة، وكذلك السُلطات اللبنانيّة المَعنيّة، ستفي بوعودها وستؤمّن التمويل اللازم ضُمن المُهل المَرسُومة.
إلى ذلك، غاب عن بال واضعي معايير الإستفادة من البطاقة التمويليّة أنّه عند رفع الدعم، وتفلّت الأسعار من أيّ سُقوف على مُختلف المُستويات، سيتحوّل المزيد من اللبنانيّين إلى "فقراء جُدد"، وسيُصبحون عاجزين عن تأمين قوتهم اليومي، إلا عبر إستهلاك ما تيسّر لهم تخزينه من أموال في مراحل سابقة. وبالتالي، إنّ إستثناء من يملك مبلغًا زهيدًا من المال في المصارف من قرار الإستفادة من أيّ مُساعدة، من دون التدقيق إذا كان الشخص المعني عاطلاً عن العمل حاليًا، أو يتقاضى راتبًا صُوريًا، هو قرار غير عادل، لأنّه في غُضون أشهر قليلة سيُصبح هذا الشخص بالتحديد أكثر فقرًا وعوزًا من كثيرين تُخوّلهم الشُروط الموضوعة الحُصول على البطاقة التمويليّة حاليًا.
في الختام، الأخطر من تحوّل شرائح واسعة من اللبنانيّين إلى "فقراء جُدد"، بعد أن كان اللبنانيّون مُشهورين بكثرة "الأغنياء الجُدد" في صُفوفهم، والأخطر من توقّع إنضمام المزيد من الشرائح إليهم في المُستقبل القريب عند رفع الدعم، ومن غياب المُعالجات الجديّة من السُلطات المعنيّة في الدولة وفي مصرف لبنان وجمعيّة المصارف، ومن الإستمرار في سياسة الهروب إلى الأمام... أنّ الكثير من اللبنانيّين تأقلموا مع حالات الفقر والعوز والإذلال. وبات الخلاص بالنسبة للبعض هو بأن يُدرج إسمه بين المَحظوظين الذين سينالون 25 دولارًا في الشهر، في خُطوة هي أقرب إلى التسوّل منه إلى الإعانة أو المُساعدة المالية!.