كمن يتعلّق بالقشّة، بالغ كثيرون في "الاستبشار" بتأليف الحكومة وكأنّها "الخلاص" المُنتظَر بعد أكثر من عامٍ كامل على استقالة حكومة حسّان دياب، سنة حفلت بـ"المصائب" التي هبّت على اللبنانيّين من كلّ حدبٍ وصوب، حتى أصبحوا لا "يطيقون" العيش في وطنٍ لا يحترم "كرامتهم"، ويبحثون عن أيّ "مَخرَج" للهرب من حفلات "الإذلال" اليوميّ.
لعلّ هناك من تعمّد تصوير الأمر كذلك، فكرّس "صورة ذهنيّة" غير مطابقة للواقع على مدى الأشهر الماضية، حيث بات كثير من اللبنانيّين "مقتنعين" بأنّ مجرّد صدور مراسيم تشكيل الحكومة سيفتح الباب أمام "الحلول الفورية" للأزمات المصيريّة التي يتخبّطون خلفها، وسينعكس "ارتياحًا" تلقائيًا وفوريًا في أوساط المواطنين.
لكنّ الحقيقة، التي قد تكون "مخيّبة" للبعض، أنّ ولادة الحكومة لن تحقّق شيئًا من هذا، وأنّها قد لا تعني أكثر من تجاوز استحقاق شكّل مطبًّا أساسيًّا على مدى أكثر من عام، بل ما قد يكون "صادمًا" لكثيرين، أنّها قد تكون بدورها "مفتاحًا" للمزيد من الأزمات "المعقّدة"، خصوصًا أنّ التحدّيات والصعوبات التي تنتظرها ربما تكون "ثقيلة جدًا".
من هذه الزاوية، ينطلق العارفون ليؤكّدوا أنّ الحكومة العتيدة، التي تأتي بعد مخاض طويل يبقى مرشحًا للتمدّد أكثر وأكثر في المرحلة المقبلة، لن تكون، في أحسن الأحوال، سوى خطوة أولى في مسار معقّد وطويل، يمكن أن يقود إلى "الفرَج"، ويمكن أن لا يفعل، إذا ما بقي منطق "بيّي أقوى من بيّك" هو السائد بين القوى السياسية الشريكة والخصمة في آن.
يتحدّث هؤلاء عن سلسلة "تحدّيات" تنتظر الحكومة بعد تشكيلها، تبدأ بالاستحقاقات التي عليها إنجازها قبل مباشرتها عملها بصورة رسميّة، ولا تنتهي عند مواجهة "التركة الثقيلة" لأشهر "الفراغ" الأخيرة، وما سبقها، منذ حراك السابع عشر من تشرين، وما أعقبه من تردٍ كامل للوضع، يرقى لمستوى الانفجار الاجتماعي بكلّ ما للكلمة من معنى.
ولعلّ المهمّة الأولى التي على الحكومة التصدّي لها، على المستوى الدستوري، تتمثّل بصياغة البيان الوزاري، وهي لن تكون مهمّة "ميسَّرة" على طريقة "استنساخ" البيانات الوزارية للحكومات السابقة كما درجت العادة في السنوات الأخيرة، خصوصًا أنّ القاصي والداني يدرك أنّ "العين" الدوليّة والإقليميّة على هذه الحكومة، كما أنّ بعض الدول القريبة والصديقة تنتظر "تبلور " سياستها للحكم عليها، وتحديد كيفيّة التعامل معها.
وبعد البيان الوزاري، الذي قد يستغرق إنجازه وقتًا، والذي قد يشهد أخذًا وردًّا يشبه أزمة التأليف نفسها، يأتي استحقاق "الثقة" التي تحتاجها الحكومة من البرلمان حتى تؤدّي عملها، وهو استحقاق قد يكون "مضمونًا"، لكنّه لا يخلو بدوره من المخاطر، خصوصًا في ظلّ تلويح أحزاب نافذة، كانت شريكة في تشكيل الحكومة، بحجب الثقة عنها.
ويقول البعض إنّ إصرار "التيار الوطني الحر" مثلاً على عدم منح نواب تكتل "لبنان القوي" الثقة للحكومة، لأنّهم لم يسمّوا رئيسها بالدرجة الأولى، لن يمرّ دون تداعيات أو تبعات، خصوصًا أنّه سيشكّل "عقبة أولى" ستصطدم بها الحكومة، علمًا أنّ بعض الأوساط السياسية أكّدت أنّ رئيس الحكومة انتزع "تعهّدًا" من التكتل المذكور بإعطاء حكومته الثقة.
وبالانتقال إلى "الشقّ العمليّ"، بعد "تجاوز" كلّ العقبات السابقة، فهنا أيضًا لا تبدو طريق الحكومة "مفروشة بالورود"، لا سيّما أنّها لا تمتلك "عصا سحرية" لحل الأزمات التي تتفجّر واحدة تلو الأخرى، علمًا أنّ "قنبلة" رفع الدعم المرتقبة خلال الأيام المقبلة قد تزيد الوضع سوءًا، في ظلّ التوقعات بأن تؤدّي إلى "تضخّم" جديد لا قدرة لأحد على تحمّله.
وإذا كان البعض يتحدّث عن "خريطة طريق" سبق أن رسمها المجتمع الدولي لأيّ حكومة تُشكَّل، وسبق لجميع الأفرقاء أن أبدوا موافقة ضمنية عليها من خلال المبادرة الفرنسية، ثمّة من ينفي وجود أيّ "توافق" من هذا النوع، ويتحدّث عن "تباين" في المقاربة بين مكوّنات الحكومة، التي قد تكون "علّتها الأساسيّة" مرّة أخرى هي افتقادها للتجانس.
وفي هذا السياق، يجاهر بعض الأفرقاء المحسوبين على الحكومة مثلاً برفضهم ما يسمّونه "الخضوع والخنوع" لإملاءات وتعليمات المجتمع الدولي، من خلال صندوق النقد الدولي، ويتحدّثون عن "مؤامرات" يعمل البنك الدولي على تنفيذها مباشرة أو مواربة، ملمّحين إلى "استهداف" للبنان في هذا السياق.
وبمُعزَل عن مدى صحّة أو دقّة هذه الافتراضات أو الادّعاءات، فإنّ هناك من يخشى وقوع الحكومة في "فخّ" غياب التوافق المُسبَق على المعالجة، علمًا أنّ المجتمع الدولي كان واضحًا بأنّ أيّ مساعدات للبنان لن تُمنَح سوى بعد مباشرة الحكومة إجراء الإصلاحات الضروريّة المطلوبة، ولا يُعتقَد أنّه سيكون "متسامحًا وليّنًا" في هذا الإطار.
وثمّة من يتحدّث عن "عقبة" أخرى ستواجهها الحكومة في هذا الإطار، وهي ببساطة أنّ الوقت "الضيّق" لن يسمح لها بالغوص في أيّ إصلاحات جوهرية، خصوصًا أنّ البلاد على أعتاب انتخابات نيابية مفترضة في غضون ثمانية أشهر، رغم محاولات البعض "تمييع" الموضوع، في ظلّ سيناريوهات تُنسَح لتطييرها أو تأجيلها.
بهذا المعنى، ينبغي أن تكون هذه الانتخابات الشغل الشاغل لهذه الحكومة، حتى يصحّ توصيفها بأنّها "حكومة انتخابات"، باعتبار أنّ عمرها مبدئيًا قصير، ولن يتجاوز الأشهر المعدودة، طالما أنها تصبح مستقيلة حكمًا بمجرّد إنجاز الاستحقاق الانتخابيّ، بعيدًا عن "النوايا المبطنة" التي تضمر الكثير، وإن كان الاحتكام لها غير جائز راهنًا.
في النتيجة، لا شكّ أنّ ولادة الحكومة أمر حيويّ وأساسيّ، وأنّ استمرار المراوحة السائدة منذ أكثر من عام، لم يعد مقبولاً، في ظلّ الانهيار الشامل. لكنّ الأكيد أنّ الإفراط في التفاؤل يضرّ أكثر ممّا ينفع، لأنّ الطريق ستبقى طويلة حتى مع ولادة الحكومة، والأسوأ، أنها ستبقى مليئة بالألغام، التي تهدّد بالإطاحة بها وبالبلد برمّته معها "على ضهر البيعة"!.