ما أن انتهى مؤتمر بغداد الاقليمي، والذي عُقد اواخر الشهر الماضي، حتى تصاعدت الأجواء التي تشير الى تأمين الأجواء المطلوبة لولادة الحكومة اللبنانية، وأنّ العدّ العكسي لهذه الولادة قد بدأ. فالمؤتمر الذي حضره الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، في زيارة هي الثانية له الى العاصمة العراقية في اقل من عام، شهد العديد من التفاهمات السياسية في ظل الاتفاقات الاقتصادية، وهو ما سمح بفتح ثغرة في جدار الحكومة اللبنانية وأنتج ولادة لها.
مؤتمر بغداد عُقد بمشاركة ايرانية وسعودية وبحضور الرئيسين الفرنسي والمصري وبدعم اميركي من بعيد، اضافة الى دول اخرى. بمعنى انّ العوامل الخارجية المؤثرة مباشرة في الملف اللبناني كانت حاضرة في أجواء من التعاون.
الرئيس الفرنسي كان الأكثر اندفاعاً، فهو كان يسعى الى إعادة ترميم مبادرته تجاه لبنان. فقبل حوالى 8 اشهر من موعد الانتخابات الرئاسية الفرنسية، يعمل ماكرون على تعزيز موقع بلاده على الخارطة الدولية.
وفي كواليس المؤتمر، طُرحت ملفات لبنان واليمن وأمن الملاحة في الخليج، اضافة الى تطورات الوضع في افغانستان، وسط دفع للعلاقة بين ايران والسعودية. والأهم، انّ ماكرون نجح في إبرام اتفاقات نفطية واخرى تتعلق بالطاقة بقيمة 17 مليار دولار، قابلة لأن تصبح 27 مليار دولار اميركي. هذه الاتفاقات هي لصالح شركة «توتال» الفرنسية العملاقة، والتي كان احد كبار مسؤوليها في عداد الوفد الرسمي الفرنسي. واللافت انّ هذه الاتفاقات هي في محافظة البصرة الشيعية، والتي لإيران تأثير واضح فيها. ولم يكن من باب المصادفة ان يزور رئيس الوزراء العراقي طهران بالأمس، بعد اقل من اسبوعين على مؤتمر بغداد.
اما مصر، فقد دشنّت دخولها على الخط اللبناني من خلال استجرار الغاز الى لبنان عبر الاردن وسوريا. هو دخول سياسي ايضاً عبر أنابيب الغاز، في ظل اصرار السعودية على الانكفاء عن الساحة اللبنانية، وترك الساحة السنّية فارغة من أي غطاء خارجي. ولأنّ الطبيعة تأبى الفراغ، وخشية ان تتقدّم تركيا او الحركات الاسلامية المتطرفة، والتي انتعشت بعد نجاح طالبان في افغانستان، كان لا بدّ من فتح الطريق امام مصر.
وجاء الدعم الاميركي من خلال إلحاح البنك الدولي ومعه صندوق النقد الدولي لتوفير الاموال اللازمة وبسرعة لتأمين وصول الغاز المصري الى لبنان عبر سوريا. وواشنطن التي تستعيد ذكرى اعتداءات 11 ايلول بمشاعر مختلفة هذه السنة، بسبب عودة طالبان الى السلطة في افغانستان، ووسط انقسام داخلي حاد.
لكن هذه الذكرى أعادت تذكير الادارة الاميركية بأهمية الشرق الاوسط وخطورته. لكن إدارة بايدن التي باشرت تركيزها على احتواء النمو الصيني على الخارطة العالمية، وجدت أهمية فائقة بالتعاون الكامل مع اوروبا. في السابق تهكّم وزير الدفاع الاميركي في إدارة جورج بوش الابن دونالد رامسفيلد من اهمية اوروبا، حين وصفها بالقارة العجوز. وجاء بعده الرئيس السابق دونالد ترامب الذي قال عن الاتحاد الاوروبي بأنّه اسوأ من الصين في موضوع التجارة. لكن إدارة بايدن اعادت تصحيح العلاقة، لقناعتها بالقيمة المهمة لحلف شمال الاطلسي، حتى ولو جاء في الإطار الدفاعي. ففرنسا وبريطانيا دعمتا الجهود الاميركية في المحيط الهادئ وبحر الصين الجنوبي. وهو ما يعني دعماً اميركياً في المقابل لجهود فرنسا ومصالحها في الشرق الاوسط ولا سيما لبنان، وسط نية اميركية للابتعاد عنهما.
من هنا يمكن تفسير الحماسة لدى البنك الدولي وصندوق النقد لتحقيق مشروع مد لبنان بالغاز المصري عبر الاراضي السورية، ولو أدّى ذلك الى اعلان بدء العمل على كسر مفاعيل «قانون قيصر».
الواضح انّ فرنسا تفاهمت مع ايران، وهو ما أنتج بيان الرئيس الايراني حول اتصاله مع نظيره الفرنسي عن لبنان، وهي تفاهمت ايضاً، ولو من زاوية اخرى، على تعاون في لبنان يضمن مصالح الجميع. وبعد مؤتمر بغداد، ظهر تفاهم على ضرورة ولادة الحكومة اللبنانية ولو تضمنت الثلث المعطّل الضمني.
لذلك، كان الكلام الفرنسي قبل حوالى الاسبوع، بأنّ الحكومة اللبنانية قد لا تكون مثالية ولا حتى وفق ما كانت تنظر اليه باريس، لكن ولادتها قد تتطلب بعض التنازلات. الكلام الفرنسي بعد الولادة الحكومية عكس ذلك بطريقة او بأخرى. المسؤولون الفرنسيون اعترفوا ضمناً انّ المساومات سادت تفاهمات الولادة القيصرية، لكنهم استطردوا بالقول بأنّ ارتياحاً ظهر عند اللبنانيين رغم المساومات المؤلمة. هو إقرار ضمني بأنّ الذهنية لأطراف السلطة لا تزال هي هي رغم كل ما حصل، وأنّ تقاسم المناصب والمصالح الذاتية كان اهم بكثير من المصلحة العامة والسعي لإنقاذ البلاد. وهي وصفت الاسلوب بالعفن رغم الانهيار الحاصل وخطر زوال الوطن، والهجرة الواسعة للنخب اللبنانية. وبعد مؤتمر بغداد استمر المسؤول الفرنسي باتريك دوريل في اتصالاته اليومية، لا بل في بعض الاحيان كل ساعة تقريباً، بمختلف المسؤولين اللبنانيين. وفي بعض الأحيان تولّى رئيس المخابرات الفرنسية برنارد ايمييه مهمّة التدخّل. وفي موازاة ذلك كان رئيس المخابرات المصرية يتولّى مهمة المساعدة، خصوصاً على الساحة السنّية، في اول مهمة مصرية فعلية على الساحة اللبنانية.
اما الاميركيون فكانوا على تنسيق كامل مع الفرنسيين في لبنان عبر سفارتيهما، خصوصاً بعد ان اعلن رئيس المخابرات الاميركية وليم بيرنز خلال زيارته للبنان وامام الذين اجتمع بهم، انّ ادارته تلتزم بتشجيع دول الخليج، ولا سيما السعودية، لتقديم مساعدات عاجلة للبنان، شرط ولادة الحكومة وإنجاز الاصلاحات المطلوبة.
وعلى الجانب الآخر، كان «حزب الله» يتحرك بنشاط ايضاً لتذليل العقبات، وتردّد انّ امين عام «حزب الله» السيد حسن نصرالله تواصل هاتفياً ولمدة ساعة من الوقت مع النائب جبران باسيل لحثه على تدوير الزوايا.
ذلك انّ ميقاتي اشترط ان يعطي «التيار الوطني الحر» الثقة في مقابل الثلث المعطّل الضمني وهذا ما حصل. وقيل انّ رئيس الحكومة قال خلال تواصله مع الفرنسيين، انّ الثلث المعطّل ليس صلباً. هو أسرّ لهم بأنّ وزيرين على الاقل سيتركان موقعيهما في حال طُرحت لاحقاً مسائل حاسمة.
أضف الى ذلك، انّ بعض الوزراء «طلعت ريحتهم» حتى قبل ان يستلموا حقائبهم، وهو ما يدلّ الى ضعف وهشاشة بعض الاسماء.
وقيل بأنّه سمّى هذين الاسمين، وبقي «حزب الله» ضاغطاً ومتدخلّاً لحل عِقد الساعات الاخيرة، ذلك انّ تأخيراً طرأ على صعوده الى قصر بعبدا دام حوالى الثلاث ساعات لحل عقدة طرأت في اللحظة الاخيرة.
في الواقع بدت هذه الحكومة بمثابة اشارة الانطلاق لولادة معادلة دولية جديدة للملف اللبناني، معادلة ثلاثية فرنسية - ايرانية - مصرية، وستتظهر هذه المعادلة الثلاثية اكثر فأكثر كلما تقدّم الوقت.
وفي برنامج الحكومة السريع ثلاثة بنود اساسية، سيتولّى الثلاثي الدولي مواكبته.
البند الاول يتعلق بالغاز المصري، والذي سيصل الى لبنان في غضون شهرين على ما يبدو.
والبند الثاني وهو ملف الكهرباء، مع توقعات باندفاعة فرنسية في هذا الاتجاه، على امل الوصول الى 15 ساعة تغذية خلال اشهر معدودة.
اما البند الثالث، فهو المتعلق بالخطة الاقتصادية والتفاهم مع صندوق النقد الدولي لإقرار الاصلاحات المطلوبة.
أما البند السياسي، فهو يطال الانتخابات النيابية، والتي من المفترض ان تشكّل بداية مرحلة أُفول الطبقة السياسية الحالية وولادة طبقة سياسية جديدة، على ان يطال التغيير حوالى ثلاثون بالمئة من المقاعد النيابية.