على طريقة "الثالثة ثابتة"، استغرقت حكومة نجيب ميقاتي حتى تولد زهاء 13 شهرًا، أعقبت استقالة حكومة حسّان دياب، بعيد انفجار مرفأ بيروت المروّع، وتخلّلتها محاولتان فاشلتان للتأليف لكلّ من السفير مصطفى أديب، ورئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري، قبل أن يتصدّى ميقاتي للمهمّة منذ شهر ونيّف، وينجح في "انتزاع" الحكومة.
لكنّ الأمر لم يستغرق أكثر من دقائق معدودات بعد التأليف، حتّى وُضِعت حكومة ميقاتي في "المشرحة السياسيّة"، إن جاز التعبير، حيث كرّت سبحة التكهّنات والتحليلات، في محاولةٍ لتقييم الحكومة، وتحديد قائمة الرابحين والخاسرين من تشكيلها بالشكل الذي حصل، فضلاً عن رسم "خريطة طريقها"، واستبيان إمكانيّة نجاحها أو فشلها.
ومع أنّ رئيس الحكومة حاول منذ اللحظة الأولى للتكليف، مع الكلمة التي وجّهها إلى اللبنانيين تحت عنوان "من القلب"، إنهاء "الجدل" السياسيّ الذي رافق المفاوضات الحكومية الماراثونية، إلا أنّها شكّلت صدارة الاهتمام في عطلة نهاية الأسبوع، حيث لم ينقطع الحديث عن "الثلث" الضامن أو المعطّل، في مفارقة مثيرة للانتباه.
هكذا، أجمع الكثير المتابعين على أنّ رئيس الجمهورية ميشال عون، وإلى جانبه رئيس "التيار الوطني الحر" الوزير السابق جبران باسيل كانا "الرابحين الأكبر" من التشكيلة الحكوميّة، مع إصرارٍ على أنّهما حصدا في نهاية المطاف، الثلث المعطّل ومعه "حبّة مسك"، إن جاز التعبير، رغم أنّ الرجلين كانا ينكران منذ اليوم الأول هذا "الطموح".
ويقول أصحاب هذا الرأي إنّ حصّة الرئيس عون المُعلَنة وصلت إلى ثمانية وزراء، بينها وزير يمثّل "الطاشناق"، وآخر قريب من رئيس "الحزب الديمقراطي اللبناني" الوزير طلال أرسلان، ولكن تتعزّز بأكثر من "وزير ملك"، في "استعارة" التسمية الشهيرة التي أطلِقت قبل أعوام على الوزير عدنان السيد حسين، الذي يذكر الجميع كيف "أطاح" بحكومة سعد الحريري.
ويشرح هؤلاء أنّ معظم الوزراء "التوافقيّين" في الحكومة هما في الواقع "أقرب" إلى عون منهم إلى أيّ شخصيّة أخرى، ما يعني أنّ رئيس الجمهورية لم يقدّم أيّ تنازل كان يدفعه باتجاهه خصومه، علمًا أنّ "التسوية" التي انتهت إليها "معضلة" الوزيرين المسيحيَّين كرّست أيضًا دور الرئيس عون في تسمية الوزراء، ولم تُلغِها بأيّ شكلٍ من الأشكال.
في المقابل، لا يبدو أنّ "الخسائر الموضعيّة" التي حاول البعض نسبها إلى الرئيس عون تحمل أيّ قيمة بالمقارنة مع حصّته الحكوميّة، ومنها مثلاً أنّ حقيبة الداخلية عادت إلى الفريق السنّي بعدما كان يطالب بها، أو أنّ يوسف خليل سُمّي وزيرًا للمال رغم اعتراضه وتحفّظه، أو أنّ رئيس الحكومة سمّى في نهاية المطاف أحد الوزيرين المسيحيّين اللذين دار حولهما سجال طويل.
لا يعني ذلك أنّ رئيس الحكومة كان "خاسرًا" في المقابل من الشكل الذي خرجت به الحكومة، بل، على العكس من ذلك، يُعتبَر أيضًا من فئة "الرابحين"، فهو نجح حيث "أخفق" الحريري، وهو ما يعطيه "نقطة صافية" في إطار "معركة المنافسة" بين الرجلين، التي لن ينجح التحالف "المصلحيّ" تحت لواء ما يسمّى بـ"نادي رؤساء الحكومات السابقين" في الحدّ منها.
ويتمدّد "الربح" الذي حقّقه ميقاتي إلى تكريسه مرّة أخرى صورة "الاعتدال والوسطيّة" التي لطالما تمسّك بها، علمًا أنّه نجح في "استمالة" خصومه التاريخيّين، فالحريري يتعاون معه بعدما "قاطعه" سابقًا، و"العهد" في المقابل وجد فيه "خلاصه" بعدما كان فتح معركة قضائية معه من خلال قضاة محسوبين عليه، على خلفية ملفّ الإسكان وغيره.
وفيما يُتوقَّع أن تلقى هذه الملفّات مصيرًا مشابهًا بـ"الإبراء المستحيل" الذي أضحى أكثر من ممكن، بنتيجة "شهر العسل" بين "التيار الوطني الحر" و"تيار المستقبل"، يسأل كثيرون عمّا إذا كان "العهد" في وارد أن يبرم "تسوية" جديدة، هذه المرّة مع ميقاتي، حتى يستطيع تمرير آخر حكومات "العهد" بأكبر قدر من "الإنجازات"، ولو الشكليّة.
ولا شكّ أن "الثنائي الشيعي" حفظ مكانته على قائمة الرابحين، فـ"حزب الله" حصل على ما أراده، علمًا أنّ هناك من يجزم أنّ الحكومة لم تكن لتُشكَّل لولا "الضوء الأخضر" الإيراني، الذي تمخّض عنه الاتصال الذي أجراه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بنظيره الإيراني إبراهيم رئيسي، وهو ما انعكس سريعًا "انفراجًا" غير مفهوم.
أما رئيس البرلمان نبيه بري، الذي سبق أن فشلت "وساطته" في إخراج الحكومة، فلم يكن خاسرًا، طالما أنّه كان داعمًا لميقاتي منذ اليوم الأول، بل يعتبر أنّه "انتصر" بتسجيل "نقطة" على الرئيس ميشال عون، الذي لم ينجح في وضع "فيتو" على مرشحه لوزارة المال، رغم كلّ ما أثير إعلاميًا حوله، فكانت كلمة "الأستاذ" الحاسمة في النهاية.
ومع أنّ رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري كان من أول "مباركي" تشكيل الحكومة، التي كان بإمكانه أن يكون رئيسها، فإنّه يُعتبَر "الخاسر الأكبر"، ليس فقط لأنّ ميقاتي حقّق ما لم يستطع فعله في أشهر طويلة، ولكن لأنّه كرّس مرّة أخرى وجود "فيتو" عصيّ على الكسر، من جانب حلفائه ورعاته الإقليميين التقليديين، وعلى رأسهم المملكة العربية السعودية.
يبقى الشعب اللبناني، الذي يبدو في مرتبة متأخّرة من الاهتمام، الفيصل الحقيقيّ، فهو قد يكون رابحًا وخاسرًا في آن من هذه الحكومة، فهو ربح "ضمانة" الحدّ الأدنى من الاستقرار السياسيّ والاقتصاديّ، وهو ما انعكس انخفاضًا تلقائيًا في سعر الصرف، يأمل كثيرون أن يستمرّ، أو على الأقلّ، أن "يصمد" في ظلّ "التحديات" الحكوميّة المرتقبة.
لكنّ المشكلة تبقى أنّ هذه "النعمة" قد تتحوّل إلى "نقمة" في أيّ لحظة، إذا ما تبيّن أنّ هذه الحكومة ستكون مثلها مثل سابقاتها، وهو ما قرئ أصلاً في التصريحات الأولى لعدد من وزرائها، وسط مخاوف مشروعة من أن يؤدّي غياب التجانس بين مكوّناتها إلى "الإطاحة" بكلّ الإيجابية المرتجاة، رغم كلّ الكلام المعسول الذي يكثر منه رئيسها.
الشعب هو الحَكَم في النهاية. لذلك، لا يهمّ من رَبِح في السياسة، سواء كان الرئيس عون، أم ميقاتي، أم "التيار الوطني الحر"، أم تيار "المستقبل"، أم "حزب الله"، أم "حركة أمل". كلّ هؤلاء، إمّا كسبوا نقاطًا، أو خسروا جولة، لكنّ الحرب التي يواجهها الشعب تتخطّاهم، فهي "وجودية" بكلّ معنى الكلمة، وهنا بيت القصيد!.