عندما قرّرت أميركا الانتقام لهزيمتها الاستراتيجية في مواجهة محور المقاومة عامة وسورية خاصة انقلبت وبقسوة إلى الإرهاب الاقتصادي والحرب على لقمة العيش ضد شعوب مكونات هذا المحور وخصت كلّ منهم بنظام انتقامي عقابي وخطة تدميرية عوّلت عليها لتحقيق أهداف ثلاثة تتمثل بمنع المكون من استثمار انتصاره ومنعه من العودة إلى حياته الطبيعية، ومنعه من إعادة بناء ما هدمته الحرب أي خلق بيئة تنسي الشعب انتصاره وتجعله يكاد يساوي بين النصر والهزيمة، ولأجل ذلك سنت في الكونغرس الأميركي «قانون قيصر» لمحاصرة سورية وعزلها، واعتمدت للبنان خطة تدميره لتدمير المقاومة فيه، وهي خطة بومبيو التي أطلقت وبدء العمل بها في ربيع العام 2019.
أرسيت خطة تدمير لبنان الأميركية على مرحلة أساس هي إحداث الفراغ السياسي عبر تعطيل السلطة التنفيذية المتمثلة بمجلس الوزراء، فراغ يقود إلى انهيارات في المال والنقد والاقتصاد يعقبه تفجير في الوضع الأمني يحاصر المقاومة ويسقطها، ويطلق بعد ذلك يد أعدائها في حكم لبنان من دون وجود للمقاومة فيه في أيّ وجه وصيغة.
وتنفيذاً لهذا المخطط استقالت حكومة سعد الحريري في خريف العام 2019 وأعلن «حلفاء» أميركا (نستعمل العبارة تجاوزاً للواقع) أنهم لن يشاركوا في حكومة فيها ممثلون للمقاومة ثم انكفأوا واستقالوا من الحكومة القائمة قبل استقالتها. وبعضهم استقال من مجلس النواب ودعا مع آخرين إلى انتخابات نيابية مبكرة يعوّل فيها على ضغوط مالية وسياسية وغير ذلك من أجل استبدال الأكثرية النيابية القائمة بأخرى معاكسة يكون لأميركا القول الفصل في قرارها.
وبالفعل نجحت الخطة الأميركية التدميرية في مراحلها الأولى الثلاث (السياسة والمال والاقتصاد) ودفعت لبنان على حدّ قول البعض إلى «جهنم» وباتت عبارات… الانهيار… التدمير الذاتي… الهجرة… الفقر… عبارات تسيطر على أدبيات السياسة اللبنانية بعد أن دفع اللبناني إلى تمضية معظم وقته بحثاً عن حاجته من المحروقات أو الكهرباء أو الغذاء أو الدواء، وفرض عليه العيش في ظل ظروف لم يشهد مثيلها حتى في أيام الحروب المختلفة التي عرفها في العقود الخمسة الماضية.
حققت أميركا بحصارها للبنان معطوفاً على حصار سورية معظم ما ابتغته من تجويع وفقر ومعاناة للشعب في البلدين، لكنها فشلت في تحقيق الهدف الاستراتيجي الأساس الذي من أجله كان الحصار وهو محاصرة المقاومة وترويضها ثم إسقاطها وإخراجها من المشهد، لقد شاءت أميركا بحصارها وتجويعها للبنان أن تسقطه وتسقط المقاومة فيه ثم تعيد تعويمه بصيغة جديدة لا يكون فيها محلّ للمقاومة.
بيد أن التخطيط الأميركي كان شيئاً أما النتائج فقد جاءت في صيغة أخرى ومضمون مختلف. حيث أن المقاومة عرفت كيف تتعامل وتواجه العدوان والحصار وعرفت كيف تتجنب السقوط أولاً ثم كيف تنقلب من موقع الضحية المستهدف بالعدوان إلى دور البطل المنقذ الحريص على المركب ومنعه من الغرق، فتصرفت بشكل دفاعي ذكي، ثم انتقلت في مراحل تالية إلى موقع الهجوم في معرض الدفاع إلى الحد الذي جعلت المعتدي المحاصر يشعر بالخشية على موقعه هو ودوره أمام تشكل خطر إسقاطه هو وإسقاط أدواته في لبنان، وهنا كانت المفاجأة الكبرى لأميركا.
لقد اتخذت المقاومة في معرض مواجهتها لخطة بومبيو وللحصار الاقتصادي الذي فرضته أميركا على لبنان رزمة من المواقف والقرارات تسبّبت في منع أميركا من تحقيق أهدافها الاستراتيجية الأساسية على رغم أنها تسبّبت في إنتاج الألم والبؤس للبنانيين بشكل يكاد لا يحتمل. وتمكنت المقاومة من تحقيق هذه النتائج عبر مواقف مميزة نذكر منها:
ـ الموقف من الاستفزازات والاعتداءات التي هدفت إلى تفجير الوضع الأمني وممارسة الصبر الاستراتيجي العالي المستوى ورفض الانزلاق إلى ما نصب للمقاومة من كمائن وأفخاخ على رغم مساهمة من يظن أنهم ليسوا أعداء للمقاومة بها.
ـ التكيّف مع الضغط المالي والاقتصادي والسعي إلى بلورة منظومة تكافل وتعاون اجتماعي تخفف من الأعباء ما استطاعت.
ـ السعي إلى منع الفراغ السياسي بشتى الطرق عبر رفض استقالة سعد الحريري وتسهيل تشكيل الحكومة البديلة والتمسك بحكومة حسان دياب ورفض استقالتها والتشجيع على تشكيل الحكومة البديلة أيضاً.
وفي هذه النقطة بالذات عملت المقاومة بشتى قدراتها لملء الفراغ السياسي ومعالجة معضلة شلل مجلس الوزراء الذي يتولى ممارسة السلطة التنفيذية لكن الضغوط الأميركية كانت أقوى من مساعي المقاومة وأشدّ تأثيراً في قرار وإرادة بعض من هم معنيون ومسؤولون دستورياً عن الموضوع، ولذلك أخفقت المقاومة في هذا الأمر على رغم شديد سعيها وحرصها أخفقت في معالجة الفراغ السياسي لأكثر من 13 شهراً متتالية.
وضع هذا الإخفاق المقاومة بين خيارين، إما التسليم به والانتظار، انتظار المجهول ـ المعلوم بأنه لن يكون في صالح الشعب وتالياً المقاومة، أو المبادرة إلى عمل يخيف المعتدي وينذره بانقلاب المشهد والخسارة، واختارت الثاني عملاً بالقاعدة الأساس في الصراعات والتي تتمثل بالقول بأنّ «المدافع ينجح عندما يلزم المهاجم بوقف الهجوم عبر اتخاذ التدابير التي تفهم العدو المهاجم بأنه لن يحقق أهدافه وأنه بات على عتبة خسارة تفقده بعض ما في يده».
في مرحلة أولى صمدت المقاومة كما ذكرنا أعلاه ومنعت العدو من تحقيق أهداف الهجوم فلم تسقط على رغم كلّ المآسي التي لحقت بلبنان وشعبه، ثم انتقلت إلى المرحلة الثانية وهي توجيه ضربة للعدوان عبر القرار الاستراتيجي بفك الحصار وتجاوز الفراغ السياسي والتحول اقتصادياً نحو الشرق في عمل كانت مقدمته استيراد النفط من إيران وقد يليه ما هو أهمّ وأخطر، من دون أن يكون هناك في لبنان في ظل الفراغ السياسي من يملك قدرة منع تنفيذ هذه القرارات.
إنّ قرار المقاومة باستيراد النفط من إيران، والتلويح بتكليف شركات إيرانية وغير إيرانية لا تخضع للإملاءات الأميركية بالتنقيب عن النفط على الساحل اللبناني مع الاحتفاظ بورقة التعاون مع الصين وفتح الباب أمام الاستثمارات الصينية فيه كلها أوراق لعبت في الوقت المناسب وأفهمت أميركا أنها وضعت على عتبة الخسارة في لبنان وخروج لبنان من يدها،
هذه المخاوف حملت أميركا على مراجعة سريعة لاستراتيجيتها في لبنان وسمحت بتشكيل حكومة تملأ الفراغ السياسي وسمحت برفع الفيتو عن العلاقة مع سورية وفكت الحصار جزئياً عن البلدين وستسمح بدخول بعض الأموال إلى لبنان، قرارات من شأنها أن تقول وبكلّ وضوح «سقطت خطة بومبيو بسقوط المرحلة الأساسية فيها»، وهي الفراغ السياسي والتراجع جزئياً عن سياسات الانهيارات المالية والاقتصادية والابتعاد أكثر عن العمل الميداني المفسد للأمن. وبهذا تكون المقاومة التي أرادت أميركا رأسها خرجت من المواجهة مع كسب جديد لها يظهرها بأنها قوة وطنية أنقذت لبنان بحكمتها وشجاعتها وعطلت عدواناً لئيماً بشعاً تضرّر منه كلّ لبناني.
ولا يعني قولنا هذا أنّ الحكومة التي شكلت هي الحكومة التي يطمح لوجودها كلّ حريص على لبنان، ففي الحكومة الجديدة ثغرات وعليها من الملاحظات الكثير، كما أن الحكومة هذه ليست عدوة لأميركا لا بل هي في جزء كبير منها تصنف في خانة أميركا وفرنسا وعلى رغم ذلك نقول إن مجرد تشكيل الحكومة وسدّ الفراغ السياسي والقبول بفك جزئي للحصار يعتبر تراجعاً أميركياً عن خطة بومبيو، وهنا يكمن نجاح المقاومة التي واجهت عدوان أميركا وحصارها الهادف لإسقاطها، فسقط العدوان وسقط الحصار وخرجت المقاومة بأفضل صورة وطنية وأكثر طمأنينة وأوسع تأييداً، وبهذا وضع لبنان في مرحلة ما بعد خطة بومبيو وهو أمر بالغ الأهمية.