ما إن صدرت مراسيم تشكيل الحكومة حتى بات أمر إجراء الانتخابات النيابية مسألة محسومة وأكيدة. فالمماحكات المتعددة التي سادت طوال اشهر الفراغ الحكومي، رسمت علامات استفهام حول ما إذا كان الهدف الفعلي منها تعطيل الحكومة للالتفاف لاحقاً، وبحكم الفوضى التي ستتوسع، على الانتخابات النيابية والعمل على منع حصولها، خصوصاً أنّ بعض هذه المماحكات كانت مبهمة وغير منطقية.
ورغم ولادة الحكومة الّا انّ هنالك من لا يزال يعتقد بأنّ البعض راهن على موضوع تعطيل الانتخابات، للانعطاف بالبلاد باتجاه مسار آخر، وسط الفوضى المتصاعدة والمنتشرة عند كل زاوية وشارع، وعلى أساس أولوية استعادة الاستقرار على ما عداه.
لكن التسويات الكبرى، والتي قادتها فرنسا وكرّستها في مؤتمر بغداد، سمح بحصول الضغوط المطلوبة لفتح الأبواب وتمرير ولادة الحكومة.
وفي النقاشات التي واكبت الولادة الحكومية، تشديد على مهامها، والتي تنصّ في أحد بنودها على إجراء الانتخابات النيابية.
في الواقع، يحق لأطراف الطبقة السياسية في لبنان ان تقلق من الانتخابات النيابية المقبلة. ففي 17 تشرين إنفجر الشارع اللبناني، في تحرّك كانت الطبقة الوسطى هي عماده. وهذه حالة نادرة في تاريخ لبنان. والأهم، انّه كلما تقدّم الوقت كانت شعبية الطبقة السياسية تسجّل انحداراً سريعاً، وهو ما عززه انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب 2020، والمآسي الناتجة منه والمشاكل التي تحيط بالتحقيقات القضائية.
ولا حاجة لتعداد أهوال «جهنم» التي عاناها اللبنانيون طوال الاشهر الماضية، والتي لم تشفع بولادة سريعة لحكومة إنقاذ.
في الواقع، أيقن الجميع خلال الايام الماضية، بأنّ ثمة قراراً كبيراً بضرورة إتمام الانتخابات النيابية في موعدها. لذلك اتُخذ قرار دولي بمراقبة العملية الانتخابية على غرار ما حصل عام 2005، وخصوصاً عام 2009. فالاتحاد الاوروبي وكذلك المنظمة الفرنكوفونية، اتخذا قراراً بإرسال مندوبين الى لبنان لمراقبة الانتخابات، وايضاً التعاون مع خبراء لبنانيين في المجال. ولا جدال بأنّ انتخابات 2022، ستكون احدى اهم الانتخابات النيابية التي جرت في تاريخ لبنان. طبعاً يدرك المجتمع الدولي الحساسية السياسية القائمة لتبدّل المشهد النيابي كما هو متوقع. والمقصود هنا، تبدّل الأغلبية النيابية التي تمتع بها «حزب الله» من خلال حلفائه، وفي طليعتهم نواب «التيار الوطني الحر».
لذلك، تفترض الواقعية السياسية الاعتقاد، انّ ثمة ترتيبات مع «حزب الله» لا بدّ ان تسبق العملية الانتخابية، تماماً كما حصل على مستوى تأليف الحكومة، ما سمح بولادتها. وفي شكل مشابه لما سبق انتخابات العام 2009، وتحديداً خلال مؤتمر الدوحة، الذي لحظ تفاهماً غير مُعلن، بأن يحظى الفريق الخاسر على الثلث الحكومي المعطّل.
في الواقع، تصف مصادر ديبلوماسية معنية، علاقة باريس بـ»حزب الله» في هذه المرحلة، بأنّها في احسن احوالها، خصوصاً بعد التفاهم الفرنسي - الإيراني في قمة بغداد، وانتقال «حزب الله» من موقع «الحياد السلبي» في الملف الحكومي الى موقع «الضاغط بقوة»، لفتح الطريق امام ولادة الحكومة، وهو ما ساهم كثيراً في إنجاز هذا الملف.
وثمة إشارة اخرى لشهر العسل الفرنسي مع «حزب الله»، وهو ما يتعلق بإيلاء وزارة الاشغال الى وزير قريب من «حزب الله». وعلى الرغم من حساسية هذه الوزارة، الّا انّ فرنسا بدت مطمئنة، مع العلم انّ ملف إعادة اعمار مرفأ بيروت مطروح بقوة على الطاولة، وسط تسابق فرنسي مع المانيا حول من سيتولّى مهمة إعادة الإعمار.
لكن ثمة قلقاً من الصراع الذي انفجر بين فرنسا والولايات المتحدة الاميركية حول موضوع الغواصات، والخشية من ان ينعكس ذلك سلباً على البرنامج الموضوع للبنان، رغم أنّه يُعتبر مستقلاً عن الخلافات الاميركية - الفرنسية. لكن الثابت والاكيد، انّ هذه الانتخابات ستحصل في موعدها.
ولذلك، باشرت القوى الحزبية والسياسية في تشغيل محرّكاتها وبدء تنشيط ماكيناتها الانتخابية. انّها مرحلة البدء بالتعبئة والعمل على شدّ العصب وإطلاق الحملات الانتخابية.
فحتى مسألة إعطاء الثقة للحكومة او عدمها تخضع لحسابات المكاسب الشعبية اكثر منها الحسابات السياسية والملفات الحكومية.
«القوات اللبنانية» باشرت تركيز خطابها الانتخابي لشدّ العصب على أساس التركيز على «حزب الله» وسوريا. اما في موضوع «مجموعات الثورة»، فهي عدّلت في اسلوبها، وبدل الاستمرار في مواجهتها، ذهبت الى اسلوب احتوائها مع التمسّك بالتمايز عنها. فالاستطلاعات المتلاحقة التي تجريها «القوات» تظهر تعاطفاً شعبياً مع «جماعة الثورة».
اما «التيار الوطني الحر»، والذي سعى رئيسه الى تحقيق مكاسب داخل الحكومة، وفي الوقت نفسه حجز مقعداً له في صفوف المعارضة واعتناق خطابها، اصطدم بشرط الرئيس نجيب ميقاتي، بأنّ حيازة الثلث الوزاري المعطّل ولو بطريقة مموهة، يستوجب ان يعطي التكتل الثقة للحكومة. لكن العين على التعيينات الكثيرة في الحكومة، والتي من المفترض أن تشكّل واقعاً داعماً لشعبية «التيار»، إضافة الى المشاريع الفرنسية والاوروبية حول الكهرباء وإنجازات معيشية، ما يسمح لرئيس التيار النائب جبران باسيل صرفها في حملاته الانتخابية.
مع الاضافة، بأنّ الخروج من مقاعد المعارضة، سيعمل على تعويضه من خلال فتح باب المواجهة الإعلامية مع الرئيس نبيه بري، وهو ما باشره خلال مقابلته التلفزيونية الاخيرة.
أما رئيس تيار «المستقبل» سعد الحريري، ورغم الخسائر التي تلقّاها أخيراً، واستمرار أزمته مع السعودية، فهو قد يكون يراهن على عدم وجود بديل جدّي له على الساحة السنّية. أضف الى ذلك، الدور الذي تتحضّر له مصر على الساحة اللبنانية وتحديداً السنّية، وحيث علاقة الحريري بالرئيس المصري ممتازة. إضافة الى الدعم الذي تبديه الإمارات للحريري، خشية استغلال التنظيمات الاسلامية لواقع الفراغ بغية تمدّدها، ما قد يلعب لصالح تركيا وأخصام الإمارات الاقليميين.
وفي الساحة الدرزية، ثمة مشاكل موجودة لم تظهر الى العلن بعد، فيما جنبلاط يدرس بتأنٍ احتمالات تعاونه الانتخابي مع «التيار الوطني الحر» او «القوات اللبنانية».
قد تكون التبدّلات هي الأخف على مستوى الساحة الشيعية، لكن مع عدم إسقاط احتمال تنشيط حركة المستقلين خارج عباءة الثنائي الشيعي. ولكن مع عدم إغفال انّ «حزب الله» قد يكون بانتظار الحملات الاعلامية التي ستشنها «القوات اللبنانية» لإعادة شدّ عصب جمهوره من دون القيام بأي مجهود.
في الواقع، ثمة تحدّيات كثيرة امام الانتخابات النيابية المقبلة، والتي لن تكون كلاسيكية بالمعنى المتعارف عليه.
هنالك موضوع الاغتراب، حيث ستسعى قوى وأحزاب الطبقة السياسية، الى العمل على إغفال موضوع تصويت المغتربين، كحل بديل عن استحالة تنفيذ إضافة 6 نواب مخصّصين للاغتراب.
اي انّ قوى السلطة ستمنع تكرار تجربة اقتراع المغتربين، لأنّها تدرك انّ الطبقة الوسطى التي اصبحت شبه مدمّرة، هاجر العديد من أبنائها الى الخارج، وهم غاضبون لا بل حاقدون على الطبقة السياسية. ما يعني انّ هؤلاء سيقترعون ضد الأحزاب ولصالح التغيير.
وفي نتائج الاستطلاعات الاخيرة لشركة «ستاتيسكس ليبانون»، ظهر انّ ثمة غضباً موجوداً سيُترجم في صناديق الاقتراع.
ويعدّد صاحب المؤسسة ربيع الهبر مناطق ستشهد تغييرات كبرى وأبرزها: زحلة، طرابلس، بيروت الاولى، بعبدا، عكار والدائرة الثالثة في محافظة الشمال، (البترون - الكورة - زغرتا - بشري).
هي نتائج مدهشة، ما يستدعي الخشية من عمل الطبقة السياسية إلى خفض نسبة الاقتراع الى الحدّ الادنى عبر تيئيس الناخبين، أو الى تشتيت أصواتهم من خلال فتح ابواب الإغراءات أمام تعدّد اللوائح.
الأكيد أنّ الانتخابات النيابية حاصلة حتماً، وأنّ تغييرات ستلحظ التوازنات المقبلة لمجلس النواب.