ارتبطت الهجرة بحياة الإنسان ارتباطاً مصيريّاً، حيث كانت الوسيلةَ التي يَلجأ إليها بحثًا عن حياةٍ تضمن له الاستمراريَّة، وهو يحاول من خلالها التخلّص من مخاوفَ قد تسببها ظروف المكان الذي يعيش فيه أو سعياً وراء تحقيق آمالِه وطموحاتِه وأهدافه في الأرض الجديدة التي يهاجر إليها.
في ما مضى ظهرت هجرة أهل الرّيف إلى المُدن، بحثاً عن فرص عمل جيدة وظروف عيش أفضل مما يوفره الريف الذي يعاني من الإهمال وسوء الخدمات وقلة الإمكانيات وانعدام فرص العمل.
ما نشهده اليوم هو تصاعد في وتيرة هجرة الشباب والأدمغة من الدول العربية نحو دول الغرب ومن أهمِّ أسبابها الظروف الأمنية والاقتصاديَّة إضافة إلى الفساد المستشري في معظم حكومات بلادنا وهي من أخطر أسباب الهجرة؛ لأنَّها تؤدي إلى هجرات جماعيَّة ومن دون تخطيطٍ الأمر الذي يتسبب بمشكلات اجتماعيَّة ونفسيَّة واقتصاديَّة كبيرة.
إهمال حكومات بلادنا العربية لكفاءات شبابنا وطلابنا غالباً ما يكون ناتجاً عن فساد السلطات الحاكمة، وانتشار المحسوبيات، والرشاوى، في حين نجد أن أغلب الدّول وخاصة دول أميركا وأوروبا مهتمة بكفاءات المهاجرين من أبنائنا وتقدّم لهم الدعم عبر الجامعات ومراكز دراسات ومختبرات البحث لم تتوافر في بلادنا العربية، وهذا ما يسهم في إغراء الشباب العربي بالهجرة لنيل فرص اللحاق في ركب التطور العلمي وإيجاد مساحات أرحب من الاستقرار وتأمين المستقبل.
ما تقدم ربما يكون مختصراً لواقع مؤلم يواجه الشباب العربي وخصوصاً أولئك أصحاب الأدمغة والعقول المنتجة للموارد والمهارات التقنية والصناعية والهندسية والطبية والإلكترونية والتي تدخل في خانة ثروة وطنية استراتيجية لا تضاهى.
الغرب انتهز فرصة الفساد المستشري بالحكومات المتعاقبة في بلادنا العربية وأخذ يخوض ضد بلادنا ومجتمعاتنا حرباً مدمرة تعتبر من أخطر الحروب وهي حرب إفراغ مجتمعنا وبلادنا من الأدمغة العلمية والبحثية والتكنولوجية المنتجة.
لم يعد الغرب مكترثاً لوجوده العسكري الدائم في بلادنا بعدما حوّل اهتمامه نحو حرب اقتصادية جائرة الهدف منها الضغط على الحكومات سياسياً بعد التحكم بثروات بلادنا وحرمان شعبنا من الإفادة منها لإبقائنا في حال من التخلف عن تحقيق التقدم والازدهار والاكتفاء الذاتي.
في آخر إحصاء للعام 2020 بلغ عدد الشباب المغادر من الوطن العربي 279 مليون مهاجر حصدت الدول المجاورة لفلسطين المحتلة سورية ولبنان والأردن ومصر والعراق حصة الأسد من هجرة الشباب ذوي الكفاءات العلمية العالية فيما شهدت كل من ليبيا وتونس والسودان هجرة شبابية جماعية نحو أوروبا وإن بوتيرة أقل من باقي الدول.
في آخر إحصاء للعام 2021 سجل لبنان وحده نسبة هجرة مخيفة للطاقات العلمية والطبية والهندسية حيث بلغت نسبة 45 بالمئة هجرة نهائية طالت أفضل خبرات الجسم الطبي، كما بلغت نسبة الهجرة النهائية من جهاز التمريض المتخصص نحو أميركا وكندا 35 بالمئة ومن قطاع المهندسين في الإعمار والتكنولوجيا ما نسبته 27 بالمئة هذا عدا عن هجرة الجهاز التعليمي.
معظم حكومات بلادنا العربية لم تكترث بمستقبل الشباب العربي ولا بإنشاء وزارة متخصصة بوضع الدراسات والإحصاءات اللازمة تضمن للشباب استكمال مسيرة إنتاجهم في البحث العلمي أو في إيجاد فرص عمل ضمن الاختصاص الذي يكفل لهم المستقبل تماماً كما يحدث في دول الغرب التي تقتنص أدمغة شبابنا.
المتفوقون في بلادنا العربية صاروا بلا أمل مع انعدام فرص العمل وأضحى الطالب المتفوق بانتظار استلام شهادة التخرج في يد وفي الأخرى تذكرة سفر جاهزة، وهكذا نكون قد خسرنا لذة العيش مع أبنائنا كما خسرت أوطاننا ومجتمعاتنا العربية إمكانية الاستفادة من الخبرات اللازمة لوضعها في خدمة التطور العلمي المساهم في ازدهار الوطن.
معظم حكومات دولنا العربية نخرها الفساد، الفاسدون هم الفائزون بمراكز الدولة حتى الدولة صارت مجرد موظف طيّع لمصلحة شبكة الفساد التي تتحكم بمفاصل الدولة، أما المجتمع العربي فصار محكوماً بالتأقلم واعتياد التعاطي مع الفساد كأمر لا مفر منه من أجل الاستمرار في الحياة.
من مظاهر الفساد الذي يقضي على مستقبل وآمال شبابنا العربي هو تولي المتمولين والأغنياء أصحاب الثروات الضخمة مقاليد الحكم والمسؤولية ولو كان مستواهم العلمي هابطاً مقابل حرمان أصحاب التفوق العلمي من مراكز المسؤولية في الدولة.
يعتقد البعض بأن المتمول يمتلك مروحة واسعة من النفوذ والاتصالات مع الدول الغربية، لكن الحقيقة أثبتت أن معظم أصحاب الثروات يوصفون بالجبناء لأنهم لا يملكون حرية اتخاذ أي قرار وطني يصب في مصلحة بلادنا وشعبنا وخصوصاً إذا كان القرار يعاكس رغبات الغرب وذلك خوفاً من عقوبات قد تطال أموالهم المودعة في مصارف أميركية وغربية، وبذلك يصبح المسؤول المتمول مجبراً على التماهي مع المصالح الغربية على عكس مصلحة بلادنا وشعوبنا وأجيالنا العربية.
الغرب يرصد، يقرصن الأدمغة العربية، يستثمر بالتفوق العلمي وبعقول شبابنا المنتج ويقدم لهم آفاقاً واسعة من العلم والتطور والفرص الناجحة مقابل انتشار ثقافة الفساد في معظم بلادنا وفي مجتمعنا العربي لذلك تصبح هجرة الأدمغة والكوادر المنتجة للموارد أمراً طبيعياً.
لكن الحقيقة هي أننا نواجه عملية إرهابية غربية صهيونية منظمة من نوع جديد تتمثل في قرصنة الأدمغة العربية بهدف إفراغ أوطاننا من أي موارد بشرية منتجة ومستشرقة يمكن لها الإسهام في نهضة أوطاننا وازدهارها وفي تقدمها العلمي والتكنولوجي.
من أخطر ما يواجه مجتمعنا وشبابنا العربي المهاجر هو تراجع الانتماء الوطني وعدم المبالاة في تطبيع العلاقات مع العدو الإسرائيلي وخصوصاً لدى هؤلاء الشباب الحاصل على جنسية غربية والذي انخرط في المجتمع الغربي طمعاً بالاستقرار النفسي والعلمي وفي تأمين مستقبله وشيخوخته وهذا ما نفتقده في بلادنا.
ما يخطط لبلادنا هو استبدال الاستعمار العسكري والاقتصادي باستعمار الأدمغة العربية وذلك بإفراغ بلادنا من ثرواتنا الفكرية والعلمية المنتجة بهدف وضعها بخدمة تقدم وتطور الغرب على حساب إبقاء بلادنا في مصاف الجهل والتخلف وهذا ما يسهم بتفكيك وتشتيت المجتمع العربي وفي استشراء الفساد فيه.
ليس بالثروات الطبيعية وحدها تبنى الأوطان لأن إدارة الثروات الطبيعية بحاجة إلى عقول وأدمغة شبابية وطنية متفوقة بالعلم والخبرة تضع الخطط الآيلة إلى ضمان مستقبل الوطن والمجتمع والإنسان العربي.
إن الثروة الوطنية الحقيقية تكمن في الحفاظ على الأدمغة والمقدرات العلمية الوطنية لشبابنا من خلال الحوار البناء وتخصيص وزارة تعنى بشؤون الشباب المتفوق علمياً، والعمل الجدي على إتاحة الفرص اللازمة لتوظيف علمهم واستثمار دراساتهم وبحوثهم في مواكبة التطور العلمي وذلك للحد من هجرة الشباب المتفوق ولتحفيز الأجيال على التمسك بالوطن.
إن تحرير الأوطان والثروات من الاحتلال بحاجة إلى أدمغة الشباب المنتج، أما تحرير الأدمغة المنتجة من الاحتلال الغربي فهي بحاجة إلى وطن يحتضن شبابه المتفوق وإلى دولة خالية من الفساد.