صحيح أن حكومة الرئيس نجيب ميقاتي تلقت قبل وبعد نيل الثقة تطمينات دولية وعلى وجه الخصوص تطمينات اميركية وفرنسية بأن طريقها ستكون معبدة وأن لا تعطيل لمهمتها في مسعاها الاصلاحي، غير ان هذا لا ينفي بأن هذه الحكومة تواجه كمّاً هائلاً من الأزمات والملفات التي تحتاج عملاً فوق العادة لمقاربتها والعمل على معالجتها كون أن عامل الوقت ليس في صالحها لأن عمرها الزمني محدود وينتهي مع اجراء الانتخابات النيابية في الصيف المقبل.
لقد عكست مجريات جلسة الثقة اجواء شكلت للعديد من الوزراء داخل الحكومة «نقزة» مما ينتظرهم مع قابل الأيام، حيث أظهرت معظم المداخلات النيابية مناخات توحي بأن مهمة الحكومة لن تكون سهلة، وأن الطريق ستكون امامها شاقة ومتعبة، خصوصاً وأنها ترث جبالاً شاهقة من الأزمات التي بعضها استجد في الاشهر والسنوات القليلة الماضية، وبعضها رافق حكومات كثيرة على مدى سنوات طويلة من دون ان تشق طريقها الى الحلول.
وإذا كانت الحكومة الجديدة قد تعهدت في بيانها الوزاري بأنها ستعمل بكل ما اوتيت من قوة لمعالجة ولو الحد الادنى من هذه الأزمات، فان عملية تصفية الحسابات، والمعارك السياسية التي شهدها «مسرح الأونيسكو» بالأمس قد اشارت بما لا يدعو الى الشك بأن مهمة الحكومة الانقاذية ستكون معقدة، وأنه في حال غياب التجانس بين مكوناتها فان ذلك سيضعها في موقع حرج امام الرأي العام اللبناني والمجتمع الدولي الذي سيحاول تأمين المناخات الملائمة لها للشروع في عملية الاصلاحات المطلوبة، وقد تبين هذا التوجه منذ اليوم الاول لتأليف الحكومة من خلال افراج صندوق النقد الدولي عن اموال للبنان وما استتبع ذلك من مواقف داعمة على عكس ما حصل مع الحكومة السابقة.
الامتحان الأول للحكومة: انطلاق العام الدراسي وتأمين المحروقات والكهرباء وتخفيض أسعار المواد الغذائية وإعادة مفاوضات ترسيم الحدود
لكن الخوف كل الخوف من ان تنعكس المعارك السياسية التي دارت رحاها في جلسة الثقة بين «التيار الوطني الحر» واكثر من طرف سياسي سلباً على اداء الحكومة، خصوصاً وأن «نبش» الملفات الذي حصل بالأمس لا يبشر بالخير وهو يبعث على الاعتقاد بأن «القلوب مليانة» ما بين القوى السياسية التي لها تمثيلها في الحكومة وهذا يعني ان اي توتر خارج الحكومة سيترجم سريعاً على طاولة مجلس الوزراء وهو ما يتطلب اسلوباً مغايراً من التعاطي ما بين مكونات الحكومة وإلا فإن البلد سيقع في المحظور مجدداً ويغرق في ازماته اكثر فأكثر، سيما وان ما يجري على بعض المسارات الاقليمية والدولية يشكل للبنان هاجساً مقلقاً من ان يعود ويوضع ملفه على رف الانتظار، وما بدأ يقلق الحكومة هو الخوف من ان تنعكس الازمة التي نشأت بين واشنطن وباريس على الساحة اللبنانية حيث ان الكل يعتقد بأن الولايات المتحدة الاميركية قد فوضت فرنسا ولو مؤقتاً بالشأن اللبناني وهو ما ساعد على ولادة الحكومة بعد سنة ونيف من الانتظار.
هذا الموضوع وإن كان يقلق الحكومة بشخص رئيسها، فإن مصادر سياسية مطلعة لا ترى في ذلك داعياً للخوف، وهي تؤكد بأن الوضع اللبناني منفصل تماماً عما يجري على الخط الأميركي – الفرنسي بشأن صفقة الغواصات مع تشديدها على ان الولايات المتحدة الأميركية لم تفوض الفرنسيين بالملف اللبناني. صحيح ان الاميركيين سهلوا عملية تأليف الحكومة لكنهم لم يلزّموا باريس هذا الملف، ففي الوقت الذي تألفت فيه الحكومة في لبنان كانت واشنطن مشغولة باستيعاب الردود السلبية من الداخل والخارج على انسحابها من افغانستان وهي تعتبر ان الموضوع اللبناني في هذه المرحلة ثانوي من الممكن ان تعود اليه في وقت لاحق، ولذا لا يمكن القول ان اميركا اعطت شيكاً على بياض للفرنسيين بالنسبة للبنان.
وفي تقدير المصادر السياسية العليمة بخفايا الاتصالات التي جرت بشأن الوضع اللبناني ان ما يهم الولايات المتحدة في لبنان هو الجنوب اكثر من مسألة الحكومة، لناحية وجود «حزب الله» على تخوم الحدود الاسرائيلية، والقرار 1701 الذي يحفظ باعتقادها امن اسرائيل، وكذلك النفط والغاز، وهذه المنطقة اي الجنوب لن يمكن لواشنطن ان تتنازل عنها لصالح الفرنسيين وإن هي قبلت فاسرائيل لن تقبل بأي دور فرنسي من هذا النوع على حدودها.
وعندما تسأل هذه المصادر ما اذا كان ما يجري بين فرنسا واميركا من خلافات حول صفقة الغواصات الاوسترالية، وكذلك الغاء صفقة طائرات «رافال» الفرنسية مع سويسرا، حيث من الممكن حصول ذلك كون ان سويسرا على طريق اتخاذ قرار استبدال شراء 36 طائرة فرنسية بـ36 طائرة اميركية من نوع F-35، تسارع هذه المصادر الى التأكيد على ان اي خلاف اميركي – فرنسي من الممكن ان يجدوا له الحل بين يوم وآخر. وهاتان الدولتان لن تذهبا بالصراعات بعيداً، لذا من المستبعد ان يكون للصراع الحالي اي تأثير على الواقع اللبناني، على العكس من الممكن ان يكون التعويض الاميركي لفرنسا من خلال اطلاق يدها في لبنان اكثر، او ابرام صفقة معينة في مكان آخر، علماً ان واشنطن سهلت لفرنسا الحصول على ابرام عقد في العراق يتعلق بالتنقيب عن النفط منذ اسبوعين، لأنه لو لم تعطِ أميركا الضوء الاخضر للعراقيين لما كانت قد تمت هذه الاتفاقية.
وفي رأي المصادر انه من المبكر جداً وضع نظريات حول مدى انعكاس التوتر الاميركي – الفرنسي على لبنان فما يجري اليوم على المستوى الاميركي هو البحث عن ماهية التعويض لفرنسا وليس معاقبتها، وواشنطن لا يمكن ان تعكر على فرنسا في لبنان، فلبنان صحيح انه جزء من الصراع الدولي، لكن علينا ان نتواضع وان لا نعتبر انفسنا قلب الصراعات بل علينا ان نعي بأننا في قلب الصراعات.
وعن عمل الحكومة في ما خص اولوياتها تؤكد المصادر بأن الحكومة ستركز الان على القضايا الاقتصادية والمعيشية لجهة تأمين انطلاق العام الدراسي بشكل طبيعي، تأمين المحروقات، الكهرباء، تخفيض اسعار المواد الغذائية، معالجة ملف الصحة والدواء لأنها بذلك تعيد الحركة المالية والمصرفية الى دورانها الطبيعي التي يجب ان تنطلق من التفاوض مع صندوق النقد الدولي، وإعادة جدولة الديون وسيأتي في المرتبة الثانية من الاهتمام اعادة المفاوضات حول النفط والغاز مع اسرائيل.
وتخلص المصادر السياسية الى التأكيد على ان الاداء الحكومي وضع تحت المراقبة منذ الساعات الاولى التي تلت نيلها الثقة في مجلس النواب، وأن العيون الداخلية والخارجية هي الان مفتوحة على هذا الأداء.