بعد نحو سنة على فشله في دفع اللبنانيين الى تنفيذ بنود مبادرته التي اطلقها من بيروت، استعاد الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون زمام الامور ونجح في سعيه الى تشكيل حكومة في لبنان، بالتعاون والتنسيق مع الولايات المتحدة وقوى اقليمية ودولية اخرى. ولا شك ان توجه رئيس الحكومة نجيب ميقاتي الى باريس في اول زيارة خارجية له بعد نيل حكومته الثقة، يحمل دلالات كافية على مدى جدّية ماكرون في العودة الى الاجواء اللبنانية، والحصول على الدعم الكافي لابقاء النفوذ الفرنسي الاكثر تأثيراً في هذا البلد. من هنا تكمن اهمية استضافة ماكرون لميقاتي على مأدبة غداء في الاليزيه، حيث سيحظى رئيس الحكومة الجديد بالدفع المعنوي الكافي ليستمر في مهمته الهادفة الى تنفيذ الاتفاق الدولي حول لبنان، والالتزام بالغطاء الفرنسي الذي وفّر مظلة سياسية واقتصادية للبلد، ومن اولى ثمار هذا اللقاء التأكيد على تقديم باريس، باسمها وباسم شركائها، كل التسهيلات اللازمة للسرعة في بدء المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، والتي تعتبر المدخل الالزامي لتحسين الامور، مع كل ما يعنيه ذلك من تدابير قاسية على المواطنين وفي مقدمها رفع الدعم وايصال سعر صرف الدولار الى خانة "مستقرّة" نوعاً ما، اي ايصاله الى سعر يعتبر مقبولاً ازاء الارتفاع الجنوني الذي كان وصل اليه، وابقائه في هذه المرتبة قدر الامكان مع هامش ارتفاع وانخفاض قليل جداً.
هذا السيناريو المطروح سيلقى تجاوباً محلياً، ليس بفعل ارادة اللاعبين اللبنانيين، بل بفعل التفاهم الدولي الحاصل حالياً والذي يسهّل الزام اللبنانيين بالتجاوب وعدم العرقلة، وما لم يطرأ اي توتر في العلاقات بين الدول الكبرى والدول الاقليمية الاخرى، فإن المسار سيكون طبيعياً وبكفالة ورعاية فرنسيين. ومن المتوقع الا تقف الامور عند هذا الحد، فهناك بطبيعة الحال مسائل تتعلق بتولّي شركات دولية عمليات اعادة الاعمار وتأهيل البنى التحتية ومشاريع الطاقة وغيرها من الامور. وفي تأمين النجاح لهذا المسار، مردود ايجابي حقيقي لكل من ماكرون وميقاتي على حدّ سواء، فالاول يضمن من خلال تثبيت النفوذ الفرنسي في لبنان، تأكيد قوته الخارجيّة واستمالة عطف اللبنانيين-الفرنسيين، اضافة الى توجيه رسالة الى مواطنيه بأن بلاده لم تتخلّ عن لبنان وانّه نجح في ابقاء الورقة اللبنانية في المحور الفرنسي، متوقّعاً ان يعود عليه هذا الامر بفائدة كبيرة في الاستحقاق الانتخابي الرئاسي، خصوصاً بعد الصفعة الاميركية التي تلقّاها في صفقة الغوّاصات الاوسترالية، علماً انه يعمل ايضاً على هذا الخط لاستعادة ماء الوجه في اسرع وقت ممكن.
اما من ناحية ميقاتي، فمن المتوقع ان يكتفي بانجازاته الحكوميّة، وقد يعلن في وقت قريب عن عدم رغبته خوض الانتخابات النيابية والاكتفاء بـ"ملائكته" في مجلس النواب، لان من شأن هذا الامر ان يعطيه مصداقية كبيرة محلياً وخارجياً، وتحضيره لترؤس حكومة ما بعد الانتخابات التي قد يضطر الجميع الى خوضها في موعدها مهما كانت الظروف، او بتأخير محدود جداً اذا ما اقتضت الحاجة الى ذلك. كما ان مكاسب ميقاتي ستكون عبر دعم خارجي، فرنسي تحديداً، لاجراء التعيينات الادارية اللازمة والتي لن تخرج عن القواعد التي وضعت في تشكيل الحكومة، اي انها لن تراعي مبدأ الاستقلالية والاختصاص والكفاءة، بل مبدأ التسويات وفق الحصص القائمة حالياً، وذلك قبل ان تتبدل نسب النفوذ التي قد تطرأ في الانتخابات النيابية المقبلة.
انها معادلة الربح بالنسبة الى الثنائي ماكرون-ميقاتي، وستنعكس حتما على بقية اللاعبين المحليين، انما بنسب مختلفة، ولكن الاهم يبقى ان طريق كل هذه الامور يبقى عبر باريس ولو اضطر الامر الى القيام بمحطّات هنا وهناك، لكن المعبر الالزامي سيبقى فرنسياً بشهادة صندوق النقد والمؤسسات الماليّة الاخرى، وطبعاً مؤتمر "سيدر".