مرّت سنة كاملة ونيّف على إنفجار الرابع من آب 2020، وما زالت التحقيقات تصطدم بعراقيل مُتعدّدة، بما يُنذر بتكرار السيناريو الذي واجه المُحقّق العدلي السابق القاضي فادي صوّان، مع المُحقّق العدلي الحالي القاضي طارق البيطار. فهل سيفشل التحقيق مُجدّدًا، وهل سيتمكّن المُعرقلون من إزاحة المُحقّق مرّة ثانية، وبالتالي من منع كشف حقيقة ما حصل؟.
لا شكّ أنّ التحقيقات بإنفجار المرفأ تُواجه حاليًا خطر التوقّف والتعثّر، لجملة من الأسباب، أبرزها:
أوّلاً: بدء تحرّك مجموعة من المُتهمين والمَطلوبين إلى التحقيق على خط قانوني، يُمكن أن يُوصل إلى كفّ يد المُحقّق البيطار عن التحقيق. والمَعلومات المُتوفّرة تُشير إلى أنّ المسار القانوني الذي إنطلق من جانب مُحامِيَي وزير الأشغال السابق يوسف فنيانوس(1)، سيُستكمل من جانب مُحامي باقي المُتهمين والمَطلوبين(2)، بحجّة أنّ المادة 70 من أصول المُحاكمات الجزائيّة تنصّ على أنّه "لمجلس النوّاب أن يتّهم رئيس مجلس الوزراء والوزراء بإرتكابهم الخيانة العُظمى أو بإخلالهم بالواجبات المُترتّبة عليهم، ولا يجوز أن يصدر قرار الإتهام إلا بغالبيّة الثلثين من مجموع أعضاء المجلس"، بينما تنصّ المادة 71 على أنّه "يُحاكم رئيس مجلس الوزراء أو الوزير المُتهم أمام المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء". كما يتحرّك الوكلاء القانونيّون للمُتهمين وللمطلوبين من مُنطلق أنّ القاضي البيطار بتّ بالدفوع الشكليّة قبل إبداء النيابة العامة لرأيها فيها. وبالتالي، يُنتظر أن يتمّ رفع دعاوى "إرتياب مشروع"، ودعاوى "طلب ردّ" القاضي العدلي عن الملفّ، في الأيّام القليلة المُقبلة، بما من شأنه أن يُجمّد التحقيقات كليًا إلى حين البتّ بهذه الدعاوى.
ثانيًا: يُواجه المُحقّق العدلي حملات سياسيّة وإعلاميّة قاسية تتهمه بالإستنسابيّة في التعامل مع الموضوع، لجهة إستدعاء رئيس حُكومة دون آخر، ووزير أشغال دون آخر، ووزير مال دون آخر، وقائد جيش أو جهاز أمني دون آخر، إلخ. وفي حين تعتبر المصادر المُدافعة عن التحقيق أنّ هذا الأمر طبيعي، لأنّ الإستدعاءات والتحقيقات تتمّ بالتدرّج، وبأنّه سيتمّ توسيع لائحة المُتهمين والمَطلوبين تباعًا، تعتبر المصادر المُنتقدة للتحقيق أنّ ما يحصل هو إنتقام سياسي من جهات مُحدّدة، وتبرئة مجانيّة وغير عادلة لجهات لا تقلّ تورّطًا بكلّ ما حصل. وبين هذا الرأي وذاك، تحثّ بعض القوى والشخصيّات القاضي البيطار على توسيع دائرة إتهاماته بشكل فوري، للتخلّص من تهمة الإستنسابيّة التي تلاحقه، بينما يرى آخرون أنّ هذه الدعوة غير بريئة أو خاطئة بأقلّ تقدير، لأنّه بحسب القول المَعروف "يلّي بيكبّر الحجر... ما بصيب"!.
ثالثًا: يُواجه المُحقّق العدلي مُعضلة أخرى تتمثّل في العجز عن التحقيق مع شخصيّات أمنيّة لها وزنها في التركيبة الداخليّة، على غرار المُدير العام للأمن العام اللواء عبّاس إبراهيم، على سبيل المثال لا الحصر. وليس بسرّ أنّ قوى سياسيّة فاعلة دخلت على خطّ التحقيق عبر تصاريح مُثيرة للجدل، منها مثلاً ما صدر عن رئيس مجلس النوّاب نبيه برّي، وعن أمين عام "حزب الله" السيّد حسن نصر الله. وقد ضجّ لبنان في الساعات الماضية، بما تردّد عن رسالة تهديد شفهيّة تلقّاها المُحقّق البيطار بشكل غير مُباشر، نقلاً عن المسؤول في "حزب الله" وفيق صفا، الأمر الذي نفته مصادر عدّة وأكّدته مصادر أخرى، ما إضطرّ النيابة العامة التمييزيّة في لبنان إلى فتح تحقيق في الموضوع لمعرفة المُلابسات. وبغضّ النظر عن مدى دقّة الرواية التي جرى تداولها، إنّ مُتابعة التحقيق في ظلّ هذه الأجواء، غير سهل، وهو لن يكون عادلًا على الإطلاق، لأنّه قد يطال شخصيّات "لا ظهر لها" حاليًا، وقد يُمنع من الإقتراب من شخصيّات تحظى بحمايات سياسيّة وطائفيّة وحتى حزبيّة.
رابعًا: حتى ما يُحكى عن أنّ القاضي البيطار يحظى بدعم شعبي واسع، يتجاوز عائلات ضحايا إنفجار الرابع من آب، غير كاف لمُتابعة التحقيق بشكل سليم. والخطير في الموضوع أنّه يُوجد رأي يقول بأنّ ما يحصل من ذرّ للرماد في العُيون عند كلّ إستدعاء أو إتهام جديد، يهدف إلى تحوير الأنظار عن الجريمة الحقيقيّة، وعمّن يقف خلفها، والتلهّي بالجدل بشأن توقيف أو عدم توقيف شخصيّات كان ينحصر دورها بإهمال مُعالجة وُجود نيترات الأمونيوم على أرض المرفأ، إمّا عن سُوء تقدير، أو عن إهمال وظيفي، أو ربّما عن خوف من قوى أمر واقع مُعيّنة. وينطلق أصحاب هذه النظريّة بأنّه لا يُمكن مثلاً لوزير مال في فترة مُعيّنة، أو لوزير أشغال في فترة مُعيّنة، أن يكون هو وراء قضيّة النيترات الخطيرة التي لم يتمّ الإجابة عن خفاياها بعد، أكان بالنسبة إلى الجهة الفعليّة التي إستوردتها، ولأيّ غاية، والجهّة الي هرّبت أو باعت أجزاء منها، ولأي غاية أيضًا، والجهة التي فجّرتها (إذا كان هناك من فعل تخريبي)، ولأي غاية كذلك الأمر؟!.
في الختام، يُمكن القول إنّه بعد عمليّة إغتيال رئيس الحُكومة الراحل رفيق الحريري، ثبت أنّ التحقيق في القضايا الكُبرى-حتى لوّ كان دَوليًا، لا يُمكن أن يصل إلى نتيجة طالما أنّ قوى أمر واقع تمنع المُحقّقين من التحرّك بحريّة على الأرض، وتغتال من تغتال وتُرهب من ترهب. واليوم، ومن خلال تجربة التحقيق الداخلي في قضيّة كبرى أيضًا، هي جريمة إنفجار مرفأ بيروت، يبدو أنّ قوى الأمر الواقع التي تتحرّك خلف الستار، قادرة على إفشال أيّ مُحاولة لكشف المُستور وإظهار الحقيقة. والخشية من أن تكون كلّ السجالات بشأن التقصير والحصانات والإستنسابيّة، إلخ. مُجرّد حرف للأنظار عن الجرائم الحقيقية المُتمثّلة بالجهات التي إستوردت نيترات الأمّونيوم، والتي خزّنتها، والتي إستخدمت أجزاء منها على مراحل...
(1) تقدّم وكيلا فنيانوس بدعوى إرتياب مشروع ضُد المُحقّق العدلي طارق البيطار الذي كان قد أصدر مُذكّرة توقيف غيابيّة بحقّه.
(2) رئيس الحكومة السابق حسّان دياب، وزير المال السابق علي حسن خليل، وزير الأشغال السابق غازي زعيتر، وزير الداخليّة السابق نهاد المشنوق.