جرعة «الاوكسيجين» التي تلقّاها اللبنانيون من خلال ولادة حكومة الرئيس نجيب ميقاتي خففت من وطأة الانهيارات المتلاحقة على كافة المستويات. الّا أنّ اللبنانيين يدركون جيداً انّ الحل الشامل للوضع المأساوي الذي يعيشونه ما زال بعيداً بعض الشيء، وأنّه مرتبط بالصراع الاقليمي الحاصل، مهما حاول البعض نفي الأمر. وبالتالي، فإنّ أنظار اللبنانيين تبقى شاخصة على العلاقات الاميركية - الايرانية وتحديداً الاتفاق المنتظر حول الملف النووي الايراني.
صحيح انّ طهران رفضت الطلب الاميركي بالبحث في ملفي الصواريخ البالستية وحدود النفوذ الإيراني في المنطقة والسعي لربطهما بالمفاوضات حول النووي، لكن التوصل الى تفاهم يقضي بإعادة العمل بالاتفاق النووي ولو من دون إدخال تعديلات عليه، سيسمح بفتح ملفات المنطقة، وخصوصاً الملف السوري، والذي سيلحظ تسويات حول الأزمة اللبنانية.
وخلال الاسابيع الماضية أبدت واشنطن «نفاد» صبرها حيال المماطلة الايرانية في إقرار التفاهم حول برنامجها النووي. وقد عبّر عن ذلك صراحة وزير الخارجية الاميركية انتوني بلينكن، في وقت اعلن فيه الرئيس الاميركي جو بايدن من على منبر الامم المتحدة، دعوته لإعادة العمل بالاتفاق النووي كما هو ومن دون أي تعديلات. وأظهر الجانب الاميركي قلقه المتزايد من حال الجمود التي تسيطر على مفاوضات فيينا، وأرسلت اشارات بأنّها تفكر في إعادة فرض عقوبات على ايران اذا لم تستأنف المفاوضات قريباً. لكن الردّ جاء على لسان وزير الخارجية الايرانية، الذي اعلن عبر وسيلة اعلامية اميركية قرب العودة الى مفاوضات فيينا.
الإدارة الاميركية كانت وجّهت ايضاً رسائل أمنية، خصوصاً عندما كشفت وسائل اعلام وضع الخطة «ب» على الطاولة، والتي قد تكون بديلاً عن توقف المفاوضات الاميركية - الايرانية.
وتحدثت وسائل الاعلام الاسرائيلية عن اجتماعات سرّية بين مجموعتي العمل الاستراتيجي بين واشنطن وتل ابيب. وعلى الرغم من هذه الرسائل المشفّرة، الّا أنّ الثابت بأنّ الأجواء لا تشي بوجود تحضيرات عسكرية او استخباراتية جدّية لدفع الاوضاع نحو التصعيد، ما يعني انّ هذه الاجتماعات وتقّصد تسريبها الى العلن، قد تكون مؤشراً لقرب التوصل الى الاتفاق لا العكس.
في الواقع، ثمة ورشة بدأت فعلياً لترتيب اوضاع المنطقة بما يتلاءم مع الاستراتيجية الاميركية الجديدة والهادفة لاحتواء الصين. والاهم أنّ الحركة بدأت ولو ببطء من اجل ترتيب الملف السوري، وهو ما سيعني في مرحلة لاحقة ترسيخ تسوية ما في لبنان. وهذه الحركة شملت روسيا، صاحبة النفوذ الاقوى في سوريا، والساعية الى تكريس حضورها ونفوذها في المنطقة انطلاقاً من سوريا. ذلك انّ موسكو أبدت خلال الايام الماضية رغبتها بعقد محادثات ومشاورات ثلاثية بينها وبين واشنطن وتل ابيب، حول الوضع في سوريا، على مستوى مستشاري الامن القومي.
وكانت آخر مرة عُقدت خلالها مشاورات ثلاثية على هذا المستوى في شهر حزيران من العام 2019، ويومها كان جون بولتون هو من يتولّى تمثيل الجانب الاميركي.
لكن الظروف تبدّلت بين حزيران 2019 واليوم. فالسلوك العاصف لإدارة دونالد ترامب رحل وحلّ مكانه سلوك مدروس لإدارة اكثر احترافية مع ادارة جو بايدن. والجنوب السوري شهد تبدّلات مع أحداث درعا الاخيرة. وكذلك فإنّ الانهيار الكبير الذي يعانيه لبنان انعكس سلباً ولو بشكل جزئي على حركة «حزب الله».
والثابت انّ اسرائيل ومعها الولايات المتحدة الاميركية تسعيان الى انسحاب ايران والقوى المتحالفة معها من الشريط السوري المحاذي للجولان المحتل. وروسيا بدورها تريد تحقيق هذا الهدف، ولو انّها ولظروفها الخاصة، تحاذر التورط بشكل مباشر حتى الآن. فهي تريد تحقيق هذا الهدف بعد ضغط اميركي يجعل دورها في هذا المضمار كصاحبة الحل لا كطرف مواجهة.
وسوريا تسعى الى اتفاقات عسكرية وأمنية مع الاردن، تسمح لها في تحقيق نقاط ثمينة في مسار تطويع الارض لسلطة النظام ومصالحه. لكن الاردن كما الاميركيين والاسرائيليين والى حدّ بعيد الروس، يعارض النفوذ الايراني عند حدوده الشمالية. مع التذكير بأنّ الملك الاردني كان اول من حذّر من الهلال الشيعي الممتد من طهران وصولاً الى بيروت.
في المقابل، سعى الاردن بقوة الى تفعيل خط الغاز والكهرباء مع لبنان عبر جنوب سوريا، هو خط يحتاج اليه لبنان بقوة من أجل إمداده بالكهرباء إن مباشرة من خلال الاردن، أو من خلال خط الغاز المصري. لكن لهذا الخط معاني سياسية تماماً كما صهاريج المازوت الإيرانية التي عبرت من سوريا الى لبنان عبر معبر غير شرعي لـ»حزب الله».
وجاء تفجير خط الانابيب في جنوب سوريا ليحمل رسالة أمنية وميدانية الى التحالف المصري - الاردني المدعوم من الولايات المتحدة الاميركية. بالتأكيد لن يعلن احد تبنّيه لعملية التفجير، لكن الرسالة واضحة، الاردن يريد تفاهمات طابعها اقتصادي ومضمونها سياسي مع سوريا. وفي المقابل تريد دمشق تفاهمات امنية في المنطقة القريبة من الحدود، و»هدايا» اميركية أكثر سخاء.
اما روسيا، وعقب القرار الاميركي باستجرار الغاز المصري الى لبنان، فطلبت اجتماعاً مع الاميركيين لجسّ النبض، ما اذا كانت واشنطن مستعدة للإعلان عن اعفاءات من العقوبات المفروضة على سوريا ومنها «قانون قيصر»، للسماح لمرور النفط والغاز عبر سوريا.
في هذا الوقت، فإنّ الجهود الاميركية قائمة لإعادة تشكيل التحالفات والاصطفافات في الشرق الاوسط، بما يتلاءم مع تخفيف التواجد الاميركي في المنطقة لصالح التفرّغ لاستراتيجية احتواء النفوذ الصيني، وجعل الشرق الاوسط منطقة مساندة لهذه الاستراتيجية.
ففي التاسع من ايلول، اعلنت القيادة المركزية للقوات البحرية الاميركية عن تشكيل «قوة مهام 59»، والتي ستكون متخصصة للعمل في الجو والبحر وتحت الماء، وبحيث ستتولّى العمليات البحرية ضمن مسؤولية الاسطول السادس والتي تشمل الخليج ومضيق هرمز وخليج عمان ومضيق باب المندب والبحر الاحمر وقناة السويس وصولاً الى اجزاء من المحيط الهندي.
وهذه القوة تتكّل على الذكاء الصناعي اكثر من الانسان، بما يعني انّها ستكون مجهزة بأحدث الاختراعات التكنولوجية، وستتولّى فرض سيطرتها على إحدى المناطق البحرية التي تشكّل منفذاً للصين.
كما ستتولّى «قوة مهام 59» التنسيق ومساندة قوة عسكرية اخرى يُعمل على تشكيلها من دول المنطقة. والمفارقة انّ هذه القوة ستتزعمها اسرائيل وستكون مهمتها النشاطات الايرانية. والواضح انّ الدول الخليجية التي نظّمت معاهدات صلح مع اسرائيل ستشارك في هذه القوة. واللافت انّه في هذا التوقيت، عمدت واشنطن الى سحب بطاريات صواريخ «الباتريوت» من السعودية، وقد يكون الهدف دفع السعودية الى توسيع دائرة العلاقة مع اسرائيل، وأن تشكّل صفقة لشراء منظومة القبة الحديدية الاسرائيلية للدفاع الصاروخي، بديلاً ناجعاً عن منظومة صواريخ «الباتريوت».
لذلك مثلاً، وافق مجلس النواب الاميركي على تمويل مشروع القبة الحديدية بأغلبية ساحقة. فيما السعودية التي عانت من هجمات صاروخية واخرى بالطائرات المسيّرة، تبدو مكشوفة الأجواء.
اما الصراع الاميركي - الفرنسي، والذي انفجر بعد إلغاء صفقة الفرنسيين، فلا يبدو انّه قابل للذهاب في طريق مسدود، رغم كل ما حصل. فخيارات فرنسا محدودة جداً، أضف الى ذلك، انّ واشنطن وضعت المسألة في اطار موجبات مواجهتها للصين وليس في إطار الصراع الاقتصادي والاستثماري، فللغواصات الاميركية ميزات، منها إبقاء التحكّم العسكري الاميركي بها عن بُعد.
لكن واشنطن التي ستسعى الى تقديم جوائز ترضية لفرنسا، قد تدفع اكثر الى فتح الطريق امام نجاح المبادرة الفرنسية في لبنان، اضافة الى جوائز اخرى سيستفيد منها ماكرون في حملته الانتخابية.
ما يعني انّ التحولات الجارية في المنطقة وفي جنوب سوريا، والدعم الذي ستتلقاه فرنسا، قد تساعد في ترتيب حلول للبنان في المستقبل. لكن بالطبع هذا سيحتاج الى بعض الوقت، ومسؤولية حكومة ميقاتي هي بتمرير الوقت بأقل كلفة.